كان صيف 2015 في لبنان صيفاً “كريه الرائحة”، حيث تراكمت تلال القمامة في مختلف أنحاء العاصمة بيروت وبلدات محافظة جبل لبنان، وذلك في الأحياء الفقيرة والثرية على حدٍ سواء (أبو الريش 2015). ومع تضخم تلال القمامة بدأت السلطات في رشها بمسحوق من السم الأبيض لكي تبعد عنها الفئران والحشرات ولكن هذا الاجراء لم يحول دون انبعاث الروائح الكريهة منها (الجزيرة 2015). بدأت أزمة النفايات تلك إثر انتهاء التعاقد الحكومي مع المتعهد الرئيسي لإدارة المخلفات الصلبة، بالإضافة إلى إغلاق مدفن “الناعمة” وفي غياب خطة طوارئ للتعامل مع الموقف، حدثت ردة فعل شعبية. خرج الآلاف من سكان بيروت – في يوليو– في مظاهرات ضد الفساد الحكومي، حيث نددوا بفشل المسؤولين في تقديم الخدمات العامة الأساسية. اندلاع أزمة النفايات تلك كانت القشة التي قصمت ظهر البعير.تهدف هذه المقالة إلى إلقاء الضوء على الخلفية السياسية لعملية إدارة المخلفات الصلبة في لبنان والظروف التي أدت لتكوين حركة “طلعت ريحتكم” الشعبية وقيام الاحتجاجات التي واكبتها في لبنان. انتفض اللبنانيون في صيف 2015، وأوضحوا أن من حق المواطنين أن يحاسبوا المسؤولين الحكوميين، منتخبين أو معيّنين، على قراراتهم وعلى نتائج السياسات التي ينتهجونها. لم يقبل المواطنون اللبنانيون الانتظار حتى تقوم الحكومة باتخاذ خطوة ما، ولكنهم طلبوا من حكومتهم أن تقوم بتنشيط دور البلديات وتزويدها بالموارد التي تحتاجها من أجل تقديم الخدمات العامة. بالرغم من تفكك حركة “طلعت ريحتكم” إلى حد كبير منذ ذلك الوقت، فإن أعضاءها السابقين قاموا بتشكيل حزب سياسي رسمي تحت اسم “بيروت مدينتي“– وقد خاض الحزب المذكور الانتخابات البلدية الأخيرة في مايو 2016 في مواجهة النخب السياسية التقليدية.
ما زال تقديم الخدمات العامة أمراً تكتنفه الصعوبات في كثيراً من بلدان الشرق الأوسط، حيث تشكل قضايا النمو العمراني واللارسمية والتحول المناخي والقيود المالية تحديات واضحة للسكان والمدن. لبنان ليس سوى مثال واحد لما يحدث في أماكن أخرى من المنطقة، حيث أدى تزايد الطلب على الخدمات الأساسية (مثل جمع وإدارة المخلفات الصلبة) والفشل الحكومي في القيام بذلك إلى تصاعد الاحتجاجات ومطالبة الناشطين والمهتمين بالقضايا العمرانية بإجراء الانتخابات البلدية والانتخابات الإقليمية (البلديات وإمكانياتها ومواردها وسلطاتها) بوصفه أحد الطرق الممكنة لإحداث تغير إيجابي.
لا يعدو لبنان كونه دولة صغيرة بها أربعة ملايين نسمة ينتمون إلى ثماني عشرة طائفة دينية تكافح من أجل العيش المشترك منذ قيام الدولة الحديثة في عام 1920. خلال الأيام التي تلت استقلال لبنان، قامت النخب التي تمثل مختلف الفئات الدينية والاجتماعية في لبنان بإنشاء نظام سياسي توافقي طائفي ما زال قائما في أغلب ملامحه حتى الآن، وهو نظام يستهدف حماية مصالح بعض الفئات بعينها. ولكن الانهيار الحالي لنظام المشاركة السياسي قد أدى بالكثير من الباحثين الاجتماعيين إلى التساؤل عن مدى كفاءة النظام التوافقي الطائفي الحالي.1
انتهت الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) بتجديد التوافق الوطني بين الطوائف الدينية اللبنانية. ولعل السيطرة السورية على مجريات السياسة اللبنانية، والتي دامت خمسة عشر عاما بعد انتهاء الحرب، قد أوضحت مدى هشاشة النظام الطائفي.
ما بين 1990 و2005، لعب النظام السوري دور الوسيط بين القوى الإقطاعية وزعماء الميليشيات وكبار رجال الأعمال والأحزاب السياسية وغيرهم من القوى على نحو أدى إلى دعم التزاوج بين القوة السياسية والاقتصادية بشكل سمح لقلة قليلة من السياسيين بالتحكم في كل من المؤسسات السياسية للدولة والقطاعات الاقتصادية الرئيسية. ومنذ اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري وانسحاب القوات السورية من لبنان في 2005 دخلت البلاد مرحلة من القلاقل السياسية والشلل المؤسسي، حيث عانت الحكومة من عدم الانسجام وقام البرلمان بتجديد صلاحيته مرتين وبات منصب الرئيس شاغرا منذ 2014.
في هذا السياق السياسي المعقد، تدهور دور الحكومة في تقديم الخدمات العامة وعانت من الفساد. 2 بالرغم من قيام البنك الدولي بتصنيف لبنان على أنه دولة ذات دخل أعلى من المتوسط،3 إلا أن لبنان ما زال يعاني من تدهور البنية التحتية وغياب نظام للنقل العام وانقطاع الكهرباء، حتى أن بعض المناطق الريفية لا تصلها الكهرباء سوى ثلاث ساعات يومياً (برغم مليارات الدولارات التي انفقت على هذا القطاع). أدى الفساد الحكومي وغياب التوازن في تقديم الخدمات العامة إلى اندلاع موجات متلاحقة من الاحتجاجات. في السنوات الأخيرة، عبّر المواطنون عن استيائهم من انقطاع الكهرباء المتكرر في موسم الصيف بقطع الطرقات الرئيسية وحرق إطارات السيارات. وكثيراً ما أدت المظاهرات التي قامت بسبب الانقطاعات في التيار الكهربائي إلى وقوع قتلى. في المقابل تجاهلت الحكومة مطالب المواطنين بشكل عام وحاولت تهدئتهم بوعود مبهمة أو حلول قصيرة المدى تنقصها الفعالية.4 ولا تعدو أزمة النفايات الأخيرة كونها إحدى تداعيات الفساد المستشري وعدم الكفاءة في المؤسسات الحكومية اللبنانية. سوف نستعرض بإيجاز فيما يلي سياسة إدارة المخلفات الصلبة في لبنان ومسار تنفيذها على مدار العقدين السابقين لاندلاع أزمة النفايات في الصيف الماضي.
ما بين 1995 و2015، أنفق لبنان أكثر من 2 مليار دولار على إدارة المخلفات الصلبة. أغلب تلك الأموال تم دفعها إلى شركتين من القطاع الخاص ترتبطان بعلاقات قوية، وهما شركتا “سوكلين” و”سوكومى”. تولت شركة “سوكلين” كنس الشوارع وجمع المخلفات وكبسها، بينما تولت شركة “سوكومى” (بدأ التعاقد معها عام 1998) عمليات الفرز والتدوير وطمر النفايات (ترحينى 2015). في المقابل تعهدت الحكومة بتوفير أماكن لدفن النفايات.
في فترة ما بعد الحرب أصبح قطاع إدارة المخلفات الصلبة، مثله مثل الكثير من الخدمات العامة الأخرى، مطمعا للشركات الخاصة التي يمتلكها كبار الساسة، حيث استغل هؤلاء هشاشة الأوضاع المحلية لمصلحتهم وقاموا بخصخصة ذلك القطاع ورفع الضوابط الحكومية عنه (أبو الريش 2015). “الزيادة الهائلة في التكلفة وانتهاكات العقود وتناقض المصالح المحتمل، كل تلك الأمور أدت مرارا وتكرارا إلى اتهامات مفادها أن القطاع يعاني من الفساد بشكل واضح” (ليندرز 2012، 55). فيتضح هذا في قيام الحكومة اللبنانية – في 2015 – بدفع مبلغ 45 دولار لشركة “سوكلين” مقابل دفن كل طن من المخلفات، مع أن السعر الدولي لتلك الخدمة في ذلك الوقت كان 11 دولار لكل طن (أبو الريش 2015). جديراً بالذكر أيضاً أن “ميسرة سكر” مدير ومؤسس شركة “سوكلين” كان شريكاً في الأعمال لرئيس الوزراء “رفيق الحريري” في المملكة السعودية قبل بداية عملية إعادة التنمية والإعمار في لبنان (أبو الريش 2015).
عندما دفعت الحكومة اللبنانية 2 مليار دولار إلى “سوكلين” و”سوكومى”، تم تحويل هذا المبلغ من “صناديق البلديات المستقلة” التي تم إنشاؤها في 1979 بهدف توفير الموارد المالية للبلديات. من الجدير بالذكر أن هناك في لبنان حاليا 1,014 بلدية بها أكثر من 11 ألف عضوا منتخباً، وهي تمثل مجالس للحكم المحلى في مختلف أنحاء البلاد (الدولية للمعلومات 2015). إلا أن خصخصة تقديم الخدمات العامة واستخدام أموال “صناديق البلديات المستقلة” في دفع مقابل خدمات الشركات الخاصة مثل “سوكلين” و”سوكومى” قد حرم البلديات من نصيبها العادل في أموال الصناديق التي تم استنزافها على هذا النحو. وفي الوقت التي تتلقى فيه الصناديق من هذا النوع ما يوازى 3% من الناتج المحلي الإجمالي في بلاد أخرى، فإن “صناديق البلديات المستقلة” في لبنان لا تحصل سوى على 0,4% من الناتج المحلي الإجمالي (عطا الله 2015 أ).
تعاني “صناديق البلديات المستقلة” من نقص الموارد المالية وأيضا من سوء الإدارة. فالحكومة المركزية تتحكم في تخصيص الموارد المالية بدون استشارة البلديات أو طلب موافقتها. بالإضافة إلى قيام الحكومة أيضا بتغيير سياسات الضرائب على نحو أدى لتقهقر دخل البلديات.5 لذلك انتقد الكثير من خبراء السياسات الأسلوب الحالي لتوزيع موارد “صناديق البلديات المستقلة”، والخاضع للمرسوم رقم 1917 لعام 1979، على أساس أنه غير عادل. مثلاً، أحد المعايير التي يستخدمها الصندوق لتخصيص الموارد المالية يستند إلى عدد السكان “المسجلين” وليس “الفعليين”، وهو ليس معياراً دقيقاً نظراً لوجود فروقات كبيرة بين عدد السكان المسجلين والفعليين. هناك أكثر من 42 بلدية يفوق بها عدد السكان الفعليين عدد السكان المسجلين بنسبة الضعف أو أكثر، في حين أن هناك 324 بلدية يقل بها عدد السكان الفعليين عن عدد السكان المسجلين بنسبة تقل عن النصف (عطا الله 2011). تلك التحديات وغيرها قد أضعفت من قدرة البلديات على تقديم الخدمات العامة.
لم يقم مقاولو القطاع الخاص بالدور المطلوب في إعادة تدوير المخلفات، الأمر الذي أدى إلى امتلاء مدفن “برج حمّود” الذي وصل إلى حد استيعابه الأقصى عام 1997 وخرج من دائرة العمل. تبع ذلك إغلاق المدفن الثاني في “الناعمة” بعد وصوله إلى حد استيعابه الأقصى في 17 يوليو 2015. وبحلول عيد الأضحى في شهر يوليو 2015، وجد اللبنانيون أنفسهم غارقين بين أطنان القمامة التي تغطي جوانب الطرقات في مختلف مدنهم. كانت الحكومة، وبالذات وزارة البيئة، على علم بما يحدث وحاولت إرجاء إغلاق مدفن “الناعمة” أكثر من مرة، ولكنها فشلت في الخروج بحل في الوقت المناسب.
كان انبعاث الروائح الكريهة وتضخم تلال القمامة في شوارع لبنان بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة للكثير من اللبنانيين الذين كانوا يعانون من أشكال أخرى من سوء تقديم الخدمات الحكومية. وقد زأر سكان بيروت بالشكوى، مستخدمين عبارات من قبيل “أن الأمور لم تعد تحتمل”، و”الدولة لا تعيرنا اهتماماً” و”حياتنا أصبحت زبالة”. ومع تزايد مشاعر السخط بين عامة الناس تجاه الساسة الذين لا يهتمون بناخبيهم وتجاه المحسوبية السائدة في صفوف السياسيين اللبنانيين، قامت جماعة من الشباب الناشط في أوساط المجتمع المدني بتنظيم حركة “طلعت ريحتكم”، والتي دعت إلى تظاهرات ضد الفساد وعدم الكفاءة في الأوساط الحكومية، مطالبة بإيجاد حلول للأزمة. وقد استخدمت الحركة الانترنت في جمع التبرعات، كما استخدمت وسائل التواصل الاجتماعي في الإعلان عن المظاهرات.6 وعلى مدى عدة أسابيع تزايد عدد المتظاهرين من عدة مئات خرجوا إلى الشوارع في 8 أغسطس إلى أكثر من 50 ألف مشارك في مظاهرة 22 أغسطس.
ركزت مطالب الحركة على ثلاثة قضايا هي: إيجاد حلول صديقة للبيئة لإدارة المخلفات الصلبة؛ وإحياء دور البلديات في إدارة النفايات عن طريق تخصيص الأموال العامة لها بدلاً من دفعها لشركات خاصة؛ ومحاسبة المسؤولين عن الأزمة. وقد زادت المطالب والحركات مع انطواء حركات أخرى مثل “بدّنا نحاسب” و”شباب ضدّ النظام” وغيرها تحت نفس المظلة، حيث قامت تلك الحركات بتجميع امكانياتها للخروج بأطر جديدة للعمل وطرق مبتكرة للعمل وتنسيق الفعاليات.7
ارتفع سقف مطالب المتظاهرين مع استمرار الاحتجاجات حيث بدأوا يرفعون شعارات تدين الدولة الفاسدة وطريقة استغلال الزعامات الحالية من النظام. وأصبح “كلّن يعنى كلّن” أحد الشعارات التي يستخدمها المحتجون على شبكات التواصل الاجتماعي في معرض إدانتهم لجميع القادة السياسيين وأحزابهم، بما في ذلك تلك الأحزاب التي تمثل طوائف ينتمي إليها المتظاهرون. وبات إصلاح قانون الانتخابات من أجل السماح بالتمثيل النسبي مطلباً شائعاً بين المتظاهرين الذين طالبوا أيضا بإنهاء الدورة البرلمانية الحالية وعقد انتخابات برلمانية.
برغم الشعبية التي تمتعت بها مظاهرات “ريحتكم طلعت” بادئ ذي بدء والتغطية الإعلامية الواسعة التي نالتها، فإن تلك المظاهرات قوبلت بالعنف من جهة الشرطة، بل أن الحكومة استخدمت الرصاص الحي ضد المتظاهرين السلميين. وقامت أحزاب ما زالت ممثلة في الحكومة باستئجار عدداً من البلطجية لضرب المتظاهرين وإثنائهم عن المشاركة في الاحتجاجات. وبالرغم أن العنف الذي مارسته الحكومة لم يمنع عامة الناس من الاحتجاج بل وقد يكون أسهم في زيادة الدعم الشعبي للحركة، فإن حملات التشويه التي استهدفت بعض منظمي الحركة قد تكون قد نجحت في تثبيط عزمهم. لقد قامت النخب السياسية والموالين لها بتنظيم حملة لتشويه صورة المنظمين، حيث اتهموا المتظاهرين بأنهم تلقوا أموال من مصادر مختلفة (بما في ذلك قطر والغرب) لزعزعة استقرار البلاد. وقد قامت سلطات الأمن باعتقال بعض منظمي الحركة لفترات قصيرة وهددتهم بالملاحقة القضائية بتهمة تهديد الأمن والاستقرار.
ما زالت أزمة النفايات تمثل خطراً كبيراً بسبب تداعياتها على الصحة والبيئة. ولكن بعد شهرين تقريباً من الاحتجاجات بدأ بريق حركة “طلعت ريحتكم” يخبو حتى اختفت تلك الحركة من الساحة في خريف 2015. وكانت الانقسامات بين المنظمين الرئيسيين وعنف الدولة وبزوغ حركات جديدة لها مطالب ورؤى مختلفة، علاوة على الصعوبات الكامنة في استمرار الحشد الشعبي لفترة طويلة، من الأسباب التي ساهمت في إنهاء الاحتجاجات.
برغم انتهاء الحشد الشعبي، فإن حركة “طلعت ريحتكم” حققت العديد من الإنجازات الهامة على الساحة السياسية اللبنانية. أولا، تمكنت الحركة من إيقاف عملية الخصخصة في قطاع إدارة المخلفات الصلبة، حيث تم إلغاء المناقصات التي كانت الشركات الخاصة تقوم من خلالها بتقديم خطط لإدارة المخلفات الصلبة إلى وزارة البيئية. تلك المناقصات التي اعتبرها بعض المراقبين مليئة بالفضائح كانت سوف تزيد من كلفة التخلص من النفايات لدافعي الضرائب، علاوة على أنها خلت من أي حلول صديقة للبيئة وأدت إلى إضعاف دور البلديات. وبفضل الضغوط التي مارسها المتظاهرين رفضت الوزارة طرح أي مناقصات جديدة لخصخصة قطاع خدمات إدارة المخلفات الصلبة.
ثانيا، أدت حركة “طلعت ريحتكم” إلى زيادة الجدل والانتقادات بشأن اللامركزية ودور البلديات. وقد أعادت الحركة التركيز على نقص الموارد المالية المزمن في البلديات والتوزيع غير المتكافئ للأموال ما بين البلديات، والذي يؤدي إلى تخصيص موارد البلديات على أساس عدد السكان المسجلين وليس الفعليين. وفي ظل تلك المخاوف، بدأت بعض التساؤلات تطرح حول الممارسات الأفضل التي يجب اتباعها من أجل ضمان توزيع أفضل للأموال العامة في المستقبل.
أدت أزمة إدارة المخلفات الصلبة الحالية وحركة “طلعت ريحتكم” المصاحبة لها إلى إيضاح العواقب الوخيمة لضعف المساءلة السياسية في لبنان ليس فقط على المستوى الأفقي، بمعنى وجود ضوابط للرقابة والفصل بين السلطات في مؤسسات الدولة، ولكن أيضاً على المستوى الرأسي، بمعنى قدرة الناخبين على محاسبة المسؤولين من خلال صناديق الانتخاب. وكما أوضح (عطا الله 2015أ) من “المركز اللبناني للدراسات” فإن المساءلة تشكل “خطراً على الأمن القومي” للنخب اللبنانية السياسية التي قامت على مدار الخمس والعشرين سنة الماضية بتقسيم المكاسب فيما بينها دون خوف من المحاسبة. وقد استطاعت تلك النخب القيام بذلك بفضل الولاء الأعمى لمؤيديها الذين يدلون بأصواتهم لتلك النخب على أساس طائفي وعشيري وليس على أساس أدائها في السلطة (كاميت 2010). وقد نجحت تلك النخب في تفصيل القوانين السياسية على مقاسها لضمان إعادة انتخابها.
أوضحت حركة “طلعت ريحتكم” وردة فعل الحكومة تجاهها مدى إصرار النخب السياسية على التحكم في المقدرات السياسية والاقتصادية للبلاد بأي ثمن. وقد قامت تلك النخب بإحياء “الحوار القومي” على عجل في سبتمبر 2015 من أجل إظهار أنها ما زالت الممثلة “الشرعية” لمختلف الطوائف اللبنانية، وذلك بعد أن أحست بالتهديد السياسي من قبل مظاهرات “طلعت ريحتكم” والحشد الذي صاحبها وأزمة تراكم النفايات في الشوارع. 8
يلقى النقاش السابق الضوء على خطوتين هامتين يجب القيام بهما من أجل تحسين تقديم الخدمات العامة في لبنان ومصر والكثير من دول الشرق الأوسط الأخرى، وهما: تقوية دور المحليات ودعم المساءلة السياسية. بالنسبة لدعم دور المحليات، يجب على الحكومة أن تصلح نظام الإدارة المالية العامة وتتبنى اللامركزية المالية من أجل منح البلديات موارد أكثر وقدرة أكبر على تسيير أمورها بشكل مستقل. كما يجب على الحكومة أيضا إصلاح نظام توزيع موارد “صناديق البلديات المستقلة” وضمان أن يكون لدى الصناديق موارد مالية كافية للقيام بمهامها. تلك الإصلاحات لا تعدو كونها خطوة أولى تجاه دعم قوة البلديات وتزويدها بالأدوات السياسية والقانونية المطلوبة وأيضا الموارد المالية الكافية لتقديم الخدمات العامة بشكل فعال.
الخطوة الثانية تتطلب وضع آليات للمساءلة، بحيث يمكن للجمهور أن يحاسب المسؤولين في حالة فشل الحكومة في القيام بدورها في تقديم الخدمات العامة الأساسية. من خلال هاتين الخطوتين سوف يتمكن الشعب من محاسبة المسؤولين، ولكن كلتا الخطوتين تتطلبان البدء بإصلاح النظام.
الطريق الأول والأصعب لدعم المساءلة هو من خلال الإصلاح الانتخابي. لا يمكن أن يتم كسر حلقة الطائفية والمحسوبية ودعم المسائلة بدون إصلاح القانون الانتخابي الذي أخرج نفس الوجوه إلى الساحة السياسية على مدى الخمس والعشرين سنة الماضية. ويعد تبني قانون جديد مبني على التمثيل النسبي من خلال دوائر انتخابية أوسع نطاقاً من الدوائر الحالية، وهو أحد مطالب متظاهري “طلعت ريحتكم”، اللبنة الأولى في محاولة خلق نخبة سياسية جديدة. وقد يؤدي مثل ذلك القانون إلى إرغام الأحزاب السياسية على بناء تحالفات انتخابية قومية عبر الخطوط الطائفية والخروج بأجندات سياسية تستجيب لمطالب المواطنين الأساسية، ومنها جمع النفايات.
أما الآلية الثانية المطلوبة لزيادة المحاسبة فهي تتضمن نشر المعلومات حول تقديم الخدمات العامة والأرقام المرتبطة بالنفقات والاستثمار. لقد اثبتت الجماهير استعدادها للخروج إلى الشارع احتجاجاً على ممارسات الحكم الخاطئة، وسوف يؤدى تزويد الجمهور بالمعلومات حول عملية صنع القرارات الحكومية إلى مساعدة جماعات المعارضة على توعية الجمهور بشأن نماذج الفشل في اتخاذ القرارات ودعم مطالب التغيير.
في غياب وجود آليات للمساءلة، سوف يواجه المواطنين اللبنانيين معاناة متزايدة بسبب سوء تقديم الخدمات العامة واستمرار الساسة الحاليين في جني ثمار النظام السياسي. ولكن في وسع الحركات الاجتماعية، مثل “طلعت ريحتكم”، أن تمارس ضغوطاً على الحكومة من أجل القيام بإصلاحات تدعم دور المحليات وتقوم بالإصلاحات. ولكن حتى تأتي اللحظة التي تقرر الحكومة فيها إجراء تلك الإصلاحات، فإن الجمهور يمكنه أن يبدأ في جمع المعلومات المطلوبة حول الأداء الحكومي واتخاذ القرارات من أجل دعم قدرته على نقد الممارسات الحالية بشكل علمي يوضح جوانب الفشل الحكومي وممارسة الضغوط من أجل تحقيق تغييرات محددة. في مصر، على سبيل المثال، قامت مبادرة تضامن بنشر معلومات بشأن تقديم الخدمات العامة في القاهرة الكبرى وقامت بتحليل توزيع تلك الخدمات وهى تستمر في الدعوة إلى إصلاحات في نظام إدارة المناطق الحضرية بهدف مساعدة المواطنين على استعادة الحق في المدينة.
أدت التجارب السياسية المرتبطة بأنشطة حركة “طلعت ريحتكم” إلى تشجيع زعماء لبنانيين جدد على شن حملة تحت عنوان “بيروت مدينتي” والترشح للانتخابات في الانتخابات البلدية الأخيرة التي جرت في مايو 2016. قام هؤلاء الناشطون بتوحيد صفوفهم بهدف الإطاحة بالمؤسسة السياسية القديمة التي تسيطر على سياسات البلديات. وقدا اكتسبوا خبرة لا يستهان بها خلال قيامهم بالاحتجاج على هدم المنازل التاريخية والدعوة للسكن بأسعار ملائمة وإلى توفير مساحات خضراء وإلى تسهيل الوصول إلى المناطق العامة والشواطئ وإلى النقل العام الآمن وإلى توفير طرق المشاة والدراجات، حيث قاموا بالضغط على البرلمان اللبناني من أجل إصدار تشريعات بيئية قوية وإعادة تدوير المخلفات. كل تلك الأشياء علمتهم الكثير عن المدينة واحتياجاتها. وقد خلقت المشاركة في الانتخابات من خلال تحالف منظم بين المنظمات غير الحكومية والمتخصصين في المدن والمهنيين والناشطين والمخططين العمرانيين تغيراً ملحوظاً في طبيعة السباق على مقاعد المجلس البلدي في بيروت. وأوضحت حملة “بيروت مدينتي” أن المجالس البلدية هي قاعدة هامة لصنع السياسة العامة، وأكد المشاركون في تلك الحملة عزمهم على إصلاح تلك المجالس وجعلها أكثر قابلية للمساءلة وضمان تمويل أفضل وقدرات تقنية أكبر لها. وهم مصرون على إرساء قواعد السياسة اللبنانية على قاعدة من السياسات البلدية المرنة والواقعية (بازي 2016).
نالت حركة “بيروت مدينتي” 32 ألف صوتاً (40% من عدد المشاركين) في الانتخابات البلدية التي جرت في مايو 2016، وهو لم يكن كافياً لإعطائها أي مقاعد في المجلس البلدي بسبب النظام السياسي الطائفي الذي لا يقوم على التمثيل النسبي وإنما “الأغلبية المطلقة”. وفي مؤتمر صحفي تم عقده بعد إعلان النتائج الرسمية، أكدت “بيروت مدينتي” أنها تعتبر إنجازاتها نقطة تحول هامة برغم عدم فوزها بأي مقاعد. وقد عقدت الحركة مناسبة احتفالية لشكر مؤيديها. واعتبر قادة “بيروت مدينتي” تلك الانتخابات والوعي والحشد الشعبي الذي ساد العملية بمثابة الخطوة الأولى تجاه تقديم – وإقناع – البيروتيين والمواطنين اللبنانيين عموما بوجود بديل للنظام السياسي الحالي يقوم على برامج انتخابية محددة تخدم السكان بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية أو السياسية. 9
برغم أن التاريخ السياسي والسياق الحضري للبنان ومصر يختلف بشكل كبير، فإن تحول حركة “ريحتكم طلعت” إلى تحالف انتخابي يسعى إلى مقاعد في المجلس المحلي قد يؤدى إلى تشجيع المنظمات غير الحكومية والمهتمين بشأن المدن في مصر على السير في نفس الاتجاه، وذلك مع اقتراب موعد الانتخابات البلدية في مصر. لقد شهدت القاهرة تزايدا في اهتمام الناشطين بتقديم الخدمات العامة في أعقاب ثورة 2011 مباشرة. هذا الاهتمام من قبل الناشطين لم يتلاش حتى يومنا هذا برغم أن البيئة السياسية قد أصبحت أكثر تقييداً. هناك جيل شاب لديه اهتمامات متنوعة ولديه أيضا المعرفة والواقعية في النظر إلى الأمور. وهناك بين هذا الجيل أعداد من الناشطين والمهتمين بقضايا المدن، وهم يؤكدون على ضرورة الإدارة الديمقراطية والحق المتكافئ في المدينة لكل سكان القاهرة. وكما كان الحال في بيروت، فإن الناشطين المصريين قد أطلقوا حملات من أجل إصلاح الإدارة المحلية (محليات الدقي والعجوزة)، وحماية المباني التاريخية (مثل حملة أنقذوا الإسكندرية ومبادرة تراث مصر الجديدة)، وحماية البيئة (مبادرة مصريون ضد الفحم)، وتقديم الخدمات العامة مثل المياه والصرف الصحي في كل أنحاء البلاد (حملة امسك فاتورة وحملة أرفض)، وتحسين النقل العام (مبادرة مواصلة للقاهرة)
هناك من يريدون لمدينة القاهرة أن تصبح مدينة تخدم جميع مواطنيها وتدار بطريقة ديمقراطية، وتمثل الانتخابات البلدية القادمة في مصر فرصة محتملة لكي يقوم هؤلاء بتوسيع نطاق نشاطهم ليشمل الحكم المحلي، وهو الأمر الذي فعلته حركة “طلعت ريحتكم” من خلال الحملة الانتخابية التي خاضتها تحت عنوان “بيروت مدينتي”. لقد أقرّ الدستور المصري 2014 أن الشباب يجب أن يكون لهم نسبة 25% من مقاعد المجالس الشعبية المحلية وأن النساء لهن نسبة 25% أخرى. ورغم أنه من الممكن أن تسيطر الأحزاب الرئيسية الداعمة للنظام على تلك المجالس الشعبية المحلية كما كان الحال في عهد مبارك، فإن المجالس الشعبية المحلية الجديدة بما تحويه من تنوع أكبر ونسبة أكبر من الشباب قد تمنح الفرصة للمهتمين بشؤون المدن والنشاطين وحلفائهم في القاهرة الفرصة لكي يشاركوا في إدارة المدينة.
ما زالت حركة “طلعت ريحتكم” تكافح من أجل القضاء على الفساد في السياسات المحلية من الداخل. وبرغم أن الطريق يكون مفعما بالأشواك، وبرغم أن آمال قادة تلك الحركة في الفوز بالانتخابات لم تكلل بالنجاح، فإنهم قد انتهزوا الفرصة السانحة لكي يحسّنوا من أوضاع المدينة ويرتفعوا بمستوى الوعي الخاص بالحق في المدينة. وبرغم أن أزمة النفايات ما زالت بلا حل، فإن حركة الناشطين قد اضطرت النخب السياسية إلى تقديم تنازلات هامة، وأدت إلى قيام شبكات وتحالفات جديدة قد يمكن الاعتماد عليها عند الحاجة إلى حشد شعبي (أبو الريش 2015). وما زال الوقت مبكرا للتنبؤ بحدوث سيناريو مماثل في مصر.
أبو الريش، 2015
AbuRish, Z. (2015). “Garbage Politics.” Middle East Research and Information Project. Washington, D.C. Middle East Report, 277. December.
الجزيرة، 2015
AlJazeera. (2015). “Lebanese protest against wastedisposal crisis.” 26 July.
عطا الله،2011
Atallah, S. (2011). The Independent Municipal Fund: Reforming the Distributional Criteria. The Lebanese Center for Policy Studies. Beirut. November 2011.
عطا الله،2015
Atallah, S. (2015). Liberate the Municipal Fund from the Grip of Politicians. The Lebanese Center for Policy Studies. Beirut. October.
عطا الله، 2015أ
Atallah, S. (2015a). Accountability: A “National Security Threat” to Lebanon’s Elites. The Lebanese Center for Policy Studies. Beirut. October
بازى، 2016
Atallah, S. (2015a). Accountability: A “National Security Threat” to Lebanon’s Elites. The Lebanese Center for Policy Studies. Beirut. October.
كاميت و إيسار، 2010
Cammett, M., & Issar, S. (2010). Bricks and Mortar Clientelism: Sectarianism and the Logics of Welfare Allocation in Lebanon. World Politics, 62(3), 381421.
جبارة و جبارة، 2001
Jabbra, J., & Jabbra, N. (2001). Consociational Democracy in Lebanon: A Flawed System of Governance. Journal of Developing Societies, 17(2), 7189.
بلديات لبنان،2005
Lebanon’s Municipalities. (2015). Information International. Beirut, Lebanon.
ليندرز، 2012
Leenders, R. (2012). Spoils of Truce: Corruption and Statebuilding in Postwar Lebanon. Ithaca: Cornell University Press.
ليجبهارت، 2001
Lijphart, A. (2001). Democracy in the 21st century: Can We be Optimistic? European Review, 9(2), 169184.
ترحينى، 2015
Tarhini, S. (2015) Sukleen’s Waste Mangement; Reality Versus Myth. A Series of White Papers on the Garbage Crisis in Lebanon Issue 1, 2015.
1. كان “ليجبهارت” من أهم علماء السياسة الذين درسوا نظم التوافقية الطائفية (2001). ولكن
هذا النظام السياسى قد تعرض للنقد من جانب الكثيرين ومنهم “جبارة وجبارة” (2001).
2. أنظر “ليندرز” لمعلومات وبيانات إضافية حول الفساد في القطاع الحكومي اللبناني (2012).taxes
3. أنظر قائمة البنك الدولي للدول مرتبة حسب الدخل.
4. مثلا، في عام 2013، أبرمت الحكومة اللبنانية عقدا قيمته 370 مليون دولار مع شركة تركية لتأجير “سفينة طاقة” تقوم بتوليد الكهرباء وتزويد لبنان بها لمدة ثلاث سنوات. وقد رست السفينة في المياه الإقليمية اللبنانية ولكنها عانت من مشاكل فنية أضعفت من إدائها. وهناك أمثلة أخرى يمكنك التعرف عليها من خلال هذا الرابط.
5. في شرح تفصيلي للموقف، يذكر عطا الله أن “صناديق البلديات المستقلة تقوم رسميا بتوليد دخلها من إحدى عشرة ضريبة ورسم تقوم الحكومة بتحصيلها نيابة عن كل البلديات. ومن مطلع التسعينات من القرن الماضى، قامت الحكومة بخفض الأموال التى تدخل إلى تلك الصناديق عن طريق تغيير القاعدة الضريبية – مثل الضريبة على العقارات وضريبة الدخل والجمارك ورسوم التأمين – مع تخفيض معدلات الضرائب على الدخل والجمارك. تلك القرارات تم اتخاذها بدون تقدير مسبق لأثرها على الأوضاع المالية للمحليات وبدون العثور على مصدر بديل للدخل. إلى جانب ذلك، قامت الحكومة بمنح إدارة الجمارك الحق في تخفيض الرسوم – وهو مصدر هام لدخل الصناديق – بدون أى مشاورة سابقة مع المحليات. علاوة على هذا، قامت الحكومة بمنع تحويل ضريبة القيمة المضافة على الهواتف النقالة إلى البلديات (المادة 55 من قانون 379) مما أدى إلى حرمان الأخيرة من دخل يبلغ مليار دولار على الأقل خلال فترة بلغت عشر سنوات. وعند مقارنة المبلغ الذى كان يجب تحصيله مقارنة بالمبلغ الذى وصل إلى البلديات بالفعل نجد أن حصيلة الصناديق كانت أقل مما ينبغى بمبلغ 205 مليون دولار (2015)”.
6. كانت الحملة الأصلية تستهدف جمع مبلغ 2,000 دولار على الانترنت ولكنها تمكنت من جمع مبلغ 22,446 دولار هو ما ساعد “طلعت ريحتكم” على تمويل تنظيم المظاهرات.
7. يمكن الاطلاع على قائمة الحركات اللبنانية ضد الفساد هنا.
8.“الحوار الوطنى” هو مبادرة تم طرحها خلال فترة التوتر السياسى عام 2006 لجمع ممثلى مختلف الجماعات السياسية والاجتماعية بهدف مناقشة أسلوب تخفيف التوتر وإنهاء الأزمات السياسية الراهنة. وقد رفضت مختلف الجماعات في 2013 الاستمرار في “الحوار الوطنى”، ولكنها استأنفت ذلك الحوار في أعقاب مظاهرات “طلعت ريحتكم” في سبتمبر 2015.
9. حظيت “بيروت مدينتى” بتغطية صحفية واسعة من الإعلام المحلى والإقليمى والدولى بما في ذلك “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست” و”الجزيرة” و”المدن“.
الصورة المختارة من موقع ياهو نيوز
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments