في أعقاب الثورة التي أطاحت بنظام الرئيس “زين العابدين بن علي” في 14 يناير 2011، خطت تونس خطوات واسعة تجاه الديمقراطية، تضمنت تبني أساليب جديدة لإشراك المواطنين في الحكم المحلى. وبفضل جهود “الحركة الجمعياتية“، وهي منظمة تونسية غير حكومية، قام أحد عشر مجلسًا محليًا في مختلف أنحاء البلاد بدعوة المواطنين إلى سلسلة من الاجتماعات العامة قام خلالها السكان بالتصويت على طريقة انفاق جانب من الموازنة على الخدمات المحلية، مثل إضاءة الأماكن العامة ورصف الشوارع. أعطت تلك البرامج التشاركية حول الموازنة نوعًا من السلطة المالية المباشرة لأولئك الأشخاص الذين يعرفون احتياجات وأولويات مدينتهم بشكل أفضل – وهم المواطنون الذين يعيشون في المدينة.
بينما قد يبدو أن النجاح الذي حققته برامج الموازنة التشاركية في تونس بعيد المنال في الواقع المصري، إلا أن هذا النوع من العمل الجماعي على المستويات المحلية قد حدث بصورةٍ ما في مصر من خلال أنشطة اللجان الشعبية، وهى جماعات المواطنين التي تشكلت في بداية الثورة المصرية لتقديم الخدمات على مستوى المناطق السكنية. وعلاوة على ذلك، فإن الحصص الانتخابية (الكوتا) في المجالس الشعبية المحلية في الانتخابات المحلية القادمة في مصر تفتح المجال لنوع جديد من المجالس الشعبية المحلية، لربما يكون أكثر تقبلًا لأشكال مبتكرة من المشاركة المجتمعية في الحكم المحلي.
تركز المقالة الحالية على الموازنة التشاركية في بلدية المرسى، وهى أول بلدية في تونس تتبع برنامجًا من هذا القبيل في أعقاب ثورة 2011. ونظرًا لأن هناك بلديات أخرى في تونس تتبع نفس منظومة القواعد والقوانين المركزية، فإنه من المتصور أن القضايا التي تطرحها تلك المقالة قد تُطرح بشكل أو بآخر في مناطق أخرى من البلاد (شوجورنسكي 2015، داي 2015).
ما هي الموازنة التشاركية؟
الموازنة التشاركية هي وسيلة من وسائل الحكم التشاركي تتضمن قيام شكل من أشكال التعاون بين المجتمع المدني والحكومة المحلية بشأن تخصيص موارد البلديات. ومع أن ممارسات الموازنة التشاركية قد تختلف من حالة إلى أخرى، إلا أنها تقوم على أساس أن التمثيل الديمقراطي بمفرده لا يكفى لتحسين جودة أداء الدولة أو توعية المواطنين وضمان انخراطهم في الحياة العامة، أو تخصيص الموارد العامة المحدودة بشكل سليم (ومبلر وماكنولتي 2011). ويرجع تاريخ الموازنة التشاركية إلى بورتو آليجري في البرازيل، عام 1989، عندما كانت البلاد تمر بمرحلة من الانفتاح السياسي والتحول الديمقراطي بعد انتهاء الحكم العسكري السلطوي. استفادت الأحزاب السياسية البرازيلية من الطاقة المجتمعية التي تولدها الموازنة التشاركية ومن حضور لاعبين سياسيين جدد على الساحة بسبب تجربة الموازنة التشاركية. وبحلول عام 2012، تم تطبيق الموازنة التشاركية في أكثر من 2,778 بلدية على مستوى العالم، منها بلديات نيويورك وبوينس آيرس ولندن (أباديلا 2014، تضامن 2013).
هناك مزايا عديدة لتطبيق الموازنة التشاركية. فهي في نظر الكثيرين، تزيد من الشفافية ومن خضوع السلطات للمساءلة بشأن إنفاق الأموال العامة، حيث أنها تسمح للمواطنين بالتعرف على طريقة الحكومة في العمل وبالتفكير في قرارات الموازنة الصعبة ومشروعات الحكومة والقيود المالية. وكل هذا يساعد البلديات على اتخاذ قرارات مدروسة وعلى القيام بالإنفاق بشكل أكثر عدالة وعلى نحو يتوافق مع احتياجات التنمية في المجتمع المحلي. هذا النوع من التعاون بين المواطنين على اختلاف خلفياتهم ومستوى دخلهم من شأنه أن يسهم أيضًا في استيعاب وإعادة توجيه جانب من الشغف السياسي ومن الرغبة في المشاركة التي أدت إلى خلع النظام السابق من سدة الحكم. من جهتهم، قام مسؤولو المحليات بتشجيع الناشطين والحركات الاجتماعية على التعامل مع التحديات في مجتمعاتهم من خلال الانخراط في عمل الحكومات المحلية واتخاذ القرارات المجتمعية.
بدء عملية الموازنة التشاركية في تونس: بلدية المرسى
خرج دستور تونس إلى النور في عام 2014، وذلك بعد عامين من المداولات والنقاشات السياسية التي تلت ثورة 2011. وقد أدى المناخ السياسي المصاحب لعملية صياغة الدستور إلى تشجيع اللامركزية ومشاركة المواطنين في الحكم المحلى. وتنص المادة 137 من الدستور التونسي الجديد على أن “للجماعات المحلية في إطار الميزانية المصادق عليها حرية التصرف في مواردها حسب قواعد الحوكمة الرشيدة”. وتضيف المادة 139 أن “تعتمد الجماعات المحلية آليات الديمقراطية التشاركية، ومبادئ الحوكمة المفتوحة، لضمان إسهام أوسع للمواطنين والمجتمع المدني في إعداد برامج التنمية” (الدستور التونسي 2014).
تأسيسًا على تلك الدفعة التي أعطاها الدستور للحكم المحلي، قامت “الحركة الجمعياتية” بتدشين برنامج “عين على الموازنة” الذى يهدف إلى تشجيع تطبيق ممارسات الموازنة التشاركية في البلديات التونسية. ويذكر أن “الحركة الجمعياتية” هي منظمة أهلية تأسست في مارس 2012 بهدف دعم التحول الديمقراطي والتعددية والتنوع والعدالة. وقال “أحمد بن نجمة”، منسق المشروعات في “الحركة الجمعياتية”، في مقابلة مع “تضامن”: “بعد الثورة، لو كان لنا أن نبنى بلدنا، فمن الضروري بناء الثقة بين الشعب والمؤسسات العامة. لقد سألنا أنفسنا، كيف يمكن أن نساهم في ذلك؟ لن تكون هناك ثقة بدون إسهام مباشر من المواطنين في عملية صنع القرارات الخاصة بتنمية مدنهم. الموازنة التشاركية هي العملية التي تسمح للمواطنين بالمساهمة في عملية صنع القرار وفي تحويل آرائهم إلى بنية تحتية ومشروعات أخرى حقيقية” (بن نجمة 2016).
في 2014، قامت “الحركة الجمعياتية” بتدشين حملة شعبية تستهدف تبنى الموازنة التشاركية في بلدية المرسى، وهى مدينة ساحلية قريبة من العاصمة تونس يبلغ تعدادها 110,000 نسمة. قامت “الحركة الجمعياتية” بالتعاون مع خبير نظم حكم سويسري يعيش في تونس، بالبحث عن استراتيجيات يمكنها أن تزيد من مشاركة المواطنين في اتخاذ القرارات في مختلف المناطق، وبتقديم مقترحات للسلطات المحلية في ذلك الصدد. “لقد اخترنا الموازنة التشاركية لأننا أردنا تحقيق شكل من أشكال المشاركة الفعلية” (بن نجمة 2016). وفى نفس العام بدأت “الحركة الجمعياتية” في تدريب بعض المواطنين للعمل كمشرفين يقومون بتنظيم ممارسات الموازنة التشاركية في بلدية المرسى. ومنذ ذلك الحين قامت بلديات أخرى بتبني ممارسات الموازنة التشاركية، وهى: منزل بورقيبة وتوزر وقابس ومنوبة وقفصة وصفاقس ورواد والكاف وسبيطلة وبن عروس.1
تدريب المشرفين في مدينة المرسى
قامت “الحركة الجمعياتية” بتدريب سبعة مشرفين ومساعدتهم في عملية تنظيم ممارسات الموازنة التشاركية في مدينة المرسى. وكما قال “باديس بو زيرى”، وهو أحد المشرفين الذين ساهموا بجهدهم في مدينة المرسى، إنه في بدء العملية كان مشرفو “الحركة الجمعياتية” يتحكمون تمامًا في العملية، بينما كان “بو زيرى” وغيره من المشرفين المحليين يلعبون أدوارًا مساعدة. ولكن قبل أن يمضي وقت طويل، قلّت مشاركة مشرفي “الحركة الجمعياتية” وبدأ المشرفون المحليون يتولون العملية بأكملها (شوجورنسكى 2015).
خلال تدريب المشرفين، قامت “الحركة الجمعياتية” بشرح التجارب الدولية في الموازنة التشاركية. وقد بدأ التدريب بتقديم معلومات عامة وشرح الخلفية التاريخية لتجارب الموازنة التشاركية في أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا. وقد شاهد المتدربون أيضًا فيديو حول خبرة بلدية كوتاكاشي في الإكوادور. وقامت “الحركة الجمعياتية” أيضا بتقديم استراتيجيات يمكن للمشرفين استخدامها فى التعامل مع السلوك غير المنضبط، من قبيل مقاطعة المتحدثين خلال حديثهم أو التحدث في الهواتف المحمولة (شوجورنسكى 2015).
جدول النشاط الأسبوعي
تم تنظيم اجتماعات الموازنة التشاركية أيام السبت والأحد. في الاجتماع الأول، الذى عُقِد في مبنى بلدية المرسى، تم شرح الفكرة العامة للموازنة التشاركية. في ذلك الاجتماع، استمع مواطنو المرسى إلى شرح فني تناول ميزانية المدينة بشكل عام: ما هي فكرتها وما هو الفرق بين ميزانية الاستثمارات والموازنة الجارية، وكيف يتم تقسيم الموازنة بين مختلف الاستخدامات، مثل الطرق والإضاءة والحدائق واستخدام مياه الأمطار وما إلى ذلك. بعدها أبلغ مسؤولو البلدية المشاركين أن مبادرة الموازنة التشاركية سوف تركز على إضاءة الأماكن العامة. ومن الجدير بالذكر أن الاختيارات المتاحة للموازنة التشاركية ما زالت محدودة حتى الآن في تونس. “قررت البلدية أن (إضاءة الأماكن العامة) هي أول بند يجب أن يتم النقاش حوله في الموازنة التشاركية. ونظرا لأن تلك كانت هي التجربة الأولى، فإنهم رأوا أن هذا البند يتضمن قضية يسهل على للمواطنين فهمها والتعامل معها”، على حد قول “بو زيري” (شوجورنسكى 2015).
في بداية، كان الهدف من اجتماعات السبت أن تكون مجرد جلسات لتقديم المعلومات، ولكن من وقت لآخر بدأت بعض المشاكل في الظهور. فبدلًا من التركيز على المشاكل الفنية فحسب، استخدم المواطنون الاجتماعات كفرصة للتنفيس عن سخطهم بشأن سوء الإدارة المحلية. وقد لوحظ أنه نظرًا لغياب مسؤولي البلدية عن الاجتماعات يوم الأحد، بعكس أيام السبت، فإن اجتماعات يوم الأحد تصبح أكثر فعالية وأكثر تركيزًا على حل المشاكل (شوجورنسكى 2015).
وبرغم تلك المحددات، تمكن المشاركون من اتخاذ قرارات بشأن إضاءة الشوارع. وعلى سبيل المثال فإنهم قرروا زيادة الإضاءة في المناطق التي تنتشر فيها الجريمة وبقرب المدارس الحكومية وأيضا في المناطق التي ترتادها النساء والأطفال.
آراء الفنيين
أحد الدروس المستفادة من تجربة مدينة المرسى هي أن المواطنين يجب أن يتحدثوا مع الخبراء الفنيين في البلدية، وليس المسؤولين الإداريين فحسب. ويعدّ فهم القيود المؤسسية والتقنية والعلاقات بين مختلف مستويات الإدارة الحكومية (القومية، الإقليمية، الحضرية، القروية، والخاصة بالأحياء) وبين مختلف الجهات الحكومية من الإنجازات الهامة لممارسات الموازنة التشاركية. كما أن التفاعل المباشر مع المسؤولين الإداريين والطاقم الفني في البلدية أعطى المواطنين فرصة هامة لفهم القيود المؤسسية والجوانب العملية لمقترحات إنفاق موارد الموازنة.
كان لتواجد الطاقم الفني دورًا هامًا في مساعدة المواطنين على فهم الموقف، وهو ما أدى إلى تفادي الخلافات الناتجة عن سوء الفهم. ويلاحظ أن الموازنة التشاركية بطبيعتها تشجع المواطنين على فهم طبيعة الموارد البشرية والتدريب والرواتب بشكل أفضل، علاوة على إدراك التسلسل المؤسسي والعلاقات البيروقراطية على مستوى البلديات.
التصويت والمتابعة
في مدينة المرسى، تم تقسيم المشاركين في نقاشات الموازنة التشاركية إلى مجموعات تضم كل منها خمسة إلى ستة أشخاص. وقامت كل مجموعة بمناقشة المشروعات المتصورّة، ثم قام متحدث باسم المجموعة بتقديم ثلاث أو أربع مشاريع إلى كل الحاضرين. وبعد انتهاء المجموعات الصغيرة من تقديم مشاريعها المقترحة إلى الحاضرين، تم إجراء اقتراع سري على المشروعات. (شوجورنسكي 2015).
بعد الاقتراع على الموازنة، قام المشاركون أيضا بالتصويت لاختيار المندوبين الذين سوف يمثلون كل حي في الاجتماعات العامة التي سوف تنظر في المقترحات المقدمة. تم اختيار ثلاثة مندوبين من كل حي. وكان الدور الرئيسي للمندوبين هو ضمان أن المشروعات التي وافق عليها المشاركون سوف يتم تنفيذها بعد انتهاء عملية التصويت. كما يلعب المندوبون أيضًا دور حلقة الوصل بين البلدية والمجتمع، وذلك من أجل ضمان الاتصال الفعّال بين الجمهور والمسؤولين المحليين خلال عملية التنفيذ. تمت تلك العملية بنفس الطريقة في الخمسة أحياء الموجودة بالمدينة، وهو ما يعني أن إجمالي عدد المندوبين في مدينة المرسى هو خمسة عشر (شوجورنسكي 2015).
المصاعب والقيود
- لحظات حرجة
كما توقع مدربو “الحركة الجمعياتية”، فإن “بو زيري” وغيره من المشرفين في مدينة المرسى مروا بلحظات حرجة. يذكر “بو زيري” مواجهة تمت في منطقة منخفضة الدخل في مدينة المرسى، وهي منطقة كانت الشرطة قد قتلت عددا من السكان بها خلال الانتفاضة ضد نظام “بن علي” في 2011. “تعرض اجتماعنا للاقتحام من جهة بعض الناس الذين جاءوا خصيصًا للتحرش بنا. كان عددهم أربعة أو خمسة فقط ولكنهم كانوا غاضبين للغاية وبدأوا في الصراخ بصوت عال. واتهمونا بأننا نتصرف وفقا لأجندة سياسية”، على حد تعبير “بو زيري”.
هذا التدخل العدواني الطابع جعل الكثير من الموجودين يفكرون في ترك الاجتماع، وهو ما يعرض التجربة للخطر. ومن حسن الحظ أن المشرفين كانوا قد استوعبوا الدروس التي تعلموها في فترة التدريب وتمكنوا من احتواء الموقف. وقد أبلغوا الحاضرين أنه سوف يكون عليهم إلغاء مبادرة الموازنة التشاركية بأكملها في المنطقة ما لم يتم استتباب الأمن. وقد ساعد هذا الموقف الحازم على إنهاء التوتر وتم استكمال الاجتماع بشكل عادي بعد ذلك. (شوجورنسكي 2015).
-النطاق المحدود للموازنة التشاركية
وفقا للنظم السارية حاليا في تونس، لم يناقش المشاركون في الموازنة التشاركية سوى 5% فقط من الموازنة البلدية في 2014، وقد تمت زيادة تلك النسبة إلى 10% من الموازنة في 2015 (داي 2015). وربما تكون المشكلة الرئيسية التي تواجه استخدام الموازنة التشاركية في تونس هي ضعف سلطة البلديات حيث أن الكثير من جوانب السياسة العامة الهامة مثل الصرف الصحي وإنشاء الطرق والقضايا البيئية تخرج عن نطاق عملها. وحيث تتولى الحكومة المركزية والوزارات تلك الأنشطة، فإن البلديات ليس لها أي دور ملحوظ في اتخاذ القرارات بشأنها في الوقت الحالي (شوجورنسكي 2015).
عندما أبلغت البلديات المشاركين أن الموازنة التشاركية سوف تركز فقط على الإضاءة في الأماكن العامة، أحسّ المواطنون بالإحباط. كان بعضهم، بالذات الذين يقيمون في المناطق الفقيرة، يرغبون في التركيز على الصرف الصحي. ويقول “بو زيري” إن الصرف الصحي هو مسؤولية الهيئة القومية التي تتبع وزارة البيئة وليست مسؤولية البلديات. وبالمثل فإن الغابات والطرق السريعة والمدارس كلها تقع خارج نطاق سلطة البلديات وتخضع لسيطرة وزارات الزراعة والمرافق العامة والتعليم على التوالي (شوجورنسكي 2015).
الفرص المستقبلية
-تطوير القدرات المحلية
في مدينة المرسى، بدأت التجربة عندما قامت “الحركة الجمعياتية” بتدريب سبعة مشرفين قاموا بتنظيم نقاش عام شارك فيه مئات المواطنين. وتم اختيار خمسة عشر مندوبًا من المشاركين لكى يلعبوا دور حلقة الوصل بين الحكومة والجمهور، وهو ما يعد سابقة لممارسات التواصل المنتظم بين البلديات والسكان. الخبرات التي تم اكتسابها في إطار أنشطة الموازنة التشاركية، والتي قامت “الحركة الجمعياتية” بدعمها، ساعدت الجماعات المحلية، ومنها “جمعية مواطني كورنيش مرسى” التي ينتمى إليها “بو زيري”، على توسيع نطاق نشاطها العام. وقد اتاحت ممارسات الموازنة التشاركية، والتي شاركت فيها منظمات مماثلة في مدينة المرسى، الفرصة لتلك المنظمات للمشاركة في صنع السياسة العامة ولو على نطاق محدود.
قد لا ترقى المناقشات حول كيفية إضاءة الشوارع إلى طموحات المشاركين في الموازنة التشاركية في المرحلة الحالية في تونس. ولكن ليس هناك شك في أن المهارات السياسية والتنظيمية التي تم اكتسابها خلال النقاشات سوف تفيد في المستقبل لو تم تطبيق الموازنة التشاركية على نطاق أوسع. وكما ورد سابقًا فإن هناك حاجة لمستوى عال من التنظيم في جلسات النقاش والتصويت وانتخاب المندوبين المتطوعين للقيام بعمليات المتابعة.
تشعر “الحركة الجمعياتية” بتفاؤل حذر تجاه التحارب الأولى في الموازنة التشاركية والتي يمكن تطويرها في الدورات التالية للموازنة. في 2015، وهو العام الثاني لتطبيق الموازنة التشاركية في مدينة المرسى، قرر المجلس المحلي أن يعطى المواطنين السلطة في اختيار جوانب الإنفاق التي سوف يشاركون في صنع القرار بشأنها من خلال ممارسات الموازنة التشاركية. وفى بعض البلديات فإن المجالس البلدية بدأت في ترك قرارات من هذا القبيل لمنظمات المجتمع المدني. (بن نجمة 2016).
في رد على سؤال بخصوص أهم انجازات الموازنة التشاركية في تونس، قام “بو زيري” برسم صورة زاهية للمستقبل. “أعتقد أننا بدأنا في تغيير العقلية المسيطرة في ثقافتها. لقد بدأ الناس يهتمون بالشأن العام في مجتمعاتنا. إنهم لم يعودوا يركزون على المشاكل فحسب، بل أحسّوا أنهم قد أصبحوا جزءًا من الحل”، كما قال “بو زيري”. وأضاف قائلا إن التجربة “تظهر أن الديمقراطية ليست ميزة مقصورة على النخبة فحسب. الموازنة التشاركية قدمت نوعًا من التدريب الذى يساعد الناس على التعرف بشكل وثيق على فكرة الديمقراطية” (شوجورنسكي 2015).
-تخصيص أفضل للموارد العامة
خلال أحد الاجتماعات، قام المشرفون في مدينة المرسى بدعوة بعض خبراء الطاقة الشمسية إلى أحد جلسات الموازنة التشاركية. نتيجة لهذا اللقاء، قرر المشاركون في الاجتماع أن الطاقة الشمسية تصلح لإضاءة المساحات العامة. خلال نقاشهم مع الخبراء، اتضحت لهم معلومة هامة. لقد اكتشفوا أن البلدية ليست مضطرة لأن تدفع أكثر من 80% من التكلفة الكلية لمشروعات الطاقة الشمسية، وذلك بفضل الدعم الذى تقدمه الإدارة المتخصصة في الحكومة المركزية من أجل تشجيع استخدام الطاقة المتجددة. ولو لم تكن جلسات الموازنة التشاركية قد انعقدت لما تسنى لمسؤولي البلدية معرفة ذلك الدعم. “لم يكن لدينا أي مشروع إضاءة بالطاقة الشمسية في مدينة المرسى. والآن، وبفضل الموازنة التشاركية، سوف تبدأ تلك المشاريع. هذا أمر يفيد المدينة وأيضا يفيد البيئة”، على حد قول “بو زيري” (شوجورنسكي 2015).
مستقبل الموازنة التشاركية فى تونس
ما زالت تجربة تونس في الموازنة التشاركية تمر بمراحلها الأولى. وبرغم أن الدستور يشجع السلطات المحلية على إشراك المواطنين في صنع القرار، فإن مجال عمل البلديات ما زال محدودًا وليس لدى تلك البلديات الكثير من الموارد المالية، وهو أمر يسبب إحباطًا للمواطنين الذين أبدوا اهتمامًا بالعملية. مع هذا، فإن مستوى التفاعل الذى تم بين المسؤولين والمواطنين غير مسبوق. وقد تمكن المشرفون الذين خرجوا من أوساط المجتمع المحلي من لعب دور وسيط ونجحوا في نبذ الشكوك وتشجيع النقاش ودعوة الخبراء ومعرفة المزيد عن البلديات وميزانيتها، وقاموا أيضا بمتابع المشروعات على نحو قد يفتح الباب إلى تطبيق الموازنة التشاركية على نحو أوسع في المستقبل.
مستقبل الموازنة التشاركية في تونس يرتبط بشكل وثيق بالعملية السياسية في البلاد. هل هناك استعداد من جانب الحكومة المركزية للتخلي عن بعض وظائفها للبلديات؟ هل يستطيع اللاعبون السياسيون، بما فيهم المنظمات غير الحكومية، الضغط من أجل منح السلطات المحلية نفوذًا أكبر؟ ولعل مشاعر الإحباط التي خالجت بعض المشاركين في تجربة مدينة المرسى تظهر أن نجاح ممارسات الموازنة التشاركية يتوقف على توسيع مدى السلطات الممنوحة للإدارة المحلية في مجالات هامة مثل البنية التحتية والصحة والتعليم والنقل العام.
هل يمكن تطبيق الموازنة التشاركية في مصر؟
في ميت عقبة، وهى منطقة تحتل موقعًا استراتيجيًا في وسط حي المهندسين الراقي بالقاهرة، قام السكان بتشكيل “اللجنة الشعبية للدفاع عن الثورة بميت عقبة” (2011-2013) في مطلع الثورة المصرية من أجل توفير الحماية للحي (في بداية الأمر) وأيضًا لمواجهة مشاكل البنية التحتية الملحة وسوء تقديم الخدمات العامة. تلك اللجنة المكوّنة من شباب وسكان ميت عقبة نشأت بصورة قاعدية وبدون دعم من أي جهة وتمكنت من شن حملة ناجحة ومن التعاون مع محافظة الجيزة في تركيب شبكة للغاز الطبيعي ورصف تسعة شوارع بالحي بعد اتمام التركيبات. (تضامن 2013-ب). وقد شارك السكان في كل مرحلة من تلك المبادرة مما أدى إلى تقليل أسعار توصيل الغاز للسكان وإنهاء الأوضاع المتدهورة التي كانت تسبب مشاكل يومية للسيارات والمارة في كثير من شوارع المنطقة.
وبفضل قيام السكان بالإشراف على العملية فإنهم نجحوا في تحقيق أفضل استغلال لبعض الموارد العامة المخصصة للحي. (للمزيد من المعلومات عن تلك التجربة، برجاء مراجعة مقالتي “تبليط الشوارع في ميت عقبة” ومحليات الدقي والعجوزة: إشراك المواطنين في المناطق المهمشة” تضامن 2013، 2015)
الدستور المصري الحالي، مثله مثل الدستور التونسي، يؤكد على الرغبة العامة في تطبيق اللامركزية وزيادة سلطة المحليات. تنص المادة 176 من الدستور المصري على أن الدولة تكفل “دعم اللامركزية الإدارية والمالية والاقتصادية”. ولكن خلافا للدستور التونسي فإن مصر لا تطالب الحكومة المحلية أو غيرها من الأجهزة الحكومية بالدخول في ممارسات تشاركية مع المجتمع. إلا أن غياب الالتزام الدستوري بشأن مشاركة المواطنين في الحكم المحلي لم يمنع سكان ميت عقبة من لعب دور فعال في تخصيص الموارد العامة في منطقتهم. بالطبع لا يجب ألا نغفل السياق العام للتجربة وأنها تمت في لحظة استثنائية بعد ثورة 2011 وباستغلال مساحات الحركة والمشاركة الشعبية التي أتاحتها، ولكن تظل التجربة دليلًا على أنه لا توجد مانعًا قانونيًا أو إداريًا يعيق المشاركة إذا ما توافرت الإرادة السياسية لذلك عند المسئولين المحليين.
كما يلاحظ أن اللغة المستخدمة في الدستور التونسي بخصوص مشاركة المواطنين في الحكم المحلي هي لغة مطاطة تفتقر إلى تحديد آلية معينة لتنفيذ تلك المشاركة. ولكن “الحركة الجمعياتية” نجحت في استغلال المساحة التي خلقتها تلك اللغة القانونية الفضفاضة من أجل الخروج بأسلوب لتشجيع المشاركة الشعبية الفعالة: وهو أسلوب الموازنة التشاركية. قال “أحمد بن نجمة” وهو منسق المشروعات في “الحركة الجمعياتية” وأحد الخبراء القوميين في الموازنة التشاركية، في حوار مع “تضامن” إن الحركة “استخدمت لغة الدستور لصالحها، وقد تقدمنا بمقترحات تقع تحت مظلة مشاركة المواطنين. وهذا ما أعطانا فرصة البحث في مختلف الاختيارات” (بن نجمة 2016).
برغم أن الموعد الرسمي لانتخابات المجالس الشعبية المحلية المقبلة في مصر لم يتم بعد تحديده، الا انه يمكننا اعتبارها سببًا للتفاؤل الحذر تجاه مستقبل مبادرات المشاركة الشعبية في الإدارة المحلية في مصر. تنص المادة 180 من دستور 2014 على تخصيص ربع المقاعد في المجالس الشعبية للنساء والربع للشباب (تحت سن 35) وعلى أن نسبة العمال والفلاحين لا يجب أن تقل عن 50% من عدد المقاعد، مع تمثيل ملائم للمسيحيين والأشخاص ذوى الإعاقة (لم يتم تحديد نسب معينة لذلك التمثيل). برغم هذا التنوع في المجالس الشعبية المحلية، فإن الأخيرة قد تقع تحت سيطرة أحزاب كبيرة موالية للنظام. ومع هذا لا يستبعد أن تقوم تلك المجالس بتجارب مثيرة للاهتمام، على غرار ما حدث في مدينة المرسى وغيرها من المدن التونسية، من قبيل تخصيص بعض الموارد للموازنة التشاركية.
كما ورد سابقًا، فإن الموازنة التشاركية كانت قادرة على استيعاب وتوجيه بعض الحراك السياسي وطاقة الناشطين التي أسفرت عن التحول الديمقراطي وتغيير النظام في دول مثل البرازيل. ولذا فإن سقف التوقعات المرتفع للإصلاح والتغير السياسي والمساءلة الحكومية التي عبرت عنها الثورة المصرية عام 2011 قد تجد متنفسًا ما في ممارسات الموازنة التشاركية التي تشجع على الانخراط المجتمعي وتؤدى إلى معرفة أفضل بين المواطنين والسكان بحكومتهم (القيود الموجودة والفرص المتاحة)، كما تسمح لهم بالنقاش واتخاذ القرارات وأيضا بالإشراف على المشاريع الحكومية والاستثمار العام. حتى لو تمت تلك الممارسات على نطاق ضيق أو تجريبي، فإن الموازنة التشاركية سوف تعود بالنفع على سكان القاهرة الراغبين في لعب دور أكبر في حكم مناطقهم وأيضا على المسؤولين الذين يتوقف مستقبلهم الانتخابي على الدعم الشعبي.
الأعمال المذكورة
مايلز أباديللا. 2014. “الديمقراطية التشاركية فى أفريقيا”. مشروع بورجن، 16 يناير. آخر زيارة للموقع في 3 يناير 2016.
أحمد بن نجمة. حوار خاص مع “تضامن”. 25 يناير 2016.
فلورا داي. 2015. “الموازنة التشاركية في المرسى”. موقع “بارتيسيبيديا”، 27 يوليو. آخر زيارة للموقع في 3 يناير 2016.
أحمد جويدارا. 2015. “الموازنة التشاركية: خطوة تجاه الديمقراطية المحلية فى تونس. تجربة مجتمع صفاقس”. موقع “ليدرز”، 30 أكتوبر. آخر زيارة 3 يناير 2016.
حاتم دمق، “في مفهوم وآليات الديمقراطية التشاركية و فرص تطبيقها فى تونس” (تقرير حول مفهوم وآلية الموازنة التشاركية”. موقع مؤسسة الياسمين. آخر زيارة للموقع في 3 يناير 2016.
دانيال شوجورنسكى. 2015. “حوار مع باديس بو زيري بشأن مبادرة الموازنة التشاركية فى تونس”. موقع “شارابول”، 22 يونيو. آخر زيارة للموقع في 2 يناير 2016.
تضامن. 2014. “أسئلة أساسية حول الموازنة التشاركية”. تضامن، 23 يونيو 2014. آخر زيارة للموقع في 3 يناير 2016.
تضامن. 2013. “هل يمكن أن تنجح الموازنة التشاركية في مصر؟” تضامن، 23 يونيو. آخر زيارة للموقع في 3 يناير 2016.
تضامن، 2013-ب. “رصف الشوارع في ميت عقبة”. تضامن، 17 يونيو. آخر زيارة للموقع في 4 يناير 2016.
باتريك ويمبلر وستيفانى ماكنولتي. 2011. “هل هناك قيمة للحوكمة التشاركية؟” مشروع الدراسات العمرانية المقارن. مركز وودرو ويلسون للباحثين الدوليين، 31 أكتوبر. آخر زيارة للموقع فى 7 يناير 2016.
الصور
“الحركة الجمعياتية”، بدون تاريخ، “النتائج الإحصائية لعام 2014″. آخر زيارة للموقع فى 7 يناير 2016.
تضامن. 2013-ب. “رصف شوارع ميت عقبة”. تضامن، 17 يونيو. آخر زيارة للموقع 4 يناير 2016.
مصادر آخرى للموازنة التشاركية
الحركة الجمعياتية: “عين على برنامج الموازنة – الموازنة التشاركية فى تونس” (بالفرنسية)
مشروع الموازنة التشاركية:
http://www.participatorybudgeting.org
المرصد الدولي للموازنة التشاركية:
http://oidp.net/en/home/
تضامن: “تساؤلات أساسية حول الموازنة التشاركية”
تضامن: “أمثلة بخصوص الموازنة التشاركية”
تضامن: “مزايا ومحددات الموازنات التشاركية”
تضامن: “هل يمكن أن تنجح الموازنات التشاركية في مصر؟”
تضامن: “الموازنة التشاركية: ما الذى يمكن لمصر أن تتعلمه من بورتو أليجري؟”
تضامن: “سكان بورتو أليجري: وما حدث عندما اقترض ماركو ثمن تذكرة الأتوبيس ودخل عالم لسياسة”
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments