أعلنت الحكومة مؤخراً عن خطة طموحة لبناء عاصمة جديدة في الصحراء. وبالنظر إلى عقود من سوء إدارة الحكومة للقاهرة، فمن السهل تخيّل أنهم استسلموا أخيراً وقرروا التخلي عن المدينة تماماً. وتجسد رؤية الحكومة الخاصة بالعاصمة الجديدة كل ما هو جيد وحقيقي وجميل في مصر، من الوعد بهواء نقي، إلى الحدائق المفتوحة مروراً باستخدام الطاقة النظيفة وناطحات السحاب الشامخة؛ فضلاً عن تقديم الوعود بالاستثمار والنمو والوظائف والهيبة. إلا أنها في الغالب خدعة وصرف للانتباه عن حقيقة أن هذه الحكومة غير قادرة على حكم القاهرة؛ فثمة فرق كبير بين إدارة مدينة وبناء مدينة جديدة، فلا يمكنك للأسف استئجار مقاول ليحكم، بل يمكنك فقط استئجار مقاول ليبني، وهو ما حدث فعلياً.
لكن أين موضع القاهرة في كل هذا؟ من في الحكومة في صف القاهرة؟ مَن مِن داخل الحكومة سيناصر هذه العاصمة؟ هناك من هم في صف البلاد والفخر القومي والاقتصاد والنخبة وحتى في صف الجيش والأمن والشركات الأجنبية والأموال، لكن لا أحد في الحكومة في صف القاهرة نفسها. صحيح أن ثمة مسؤولين حكوميين عديدون ممن يتحدثون عن القاهرة ومشكلاتها وتحدياتها واحتمالات أن تعود عظمتها من جديد في حال اختفى ثلثاها فقط، ولكن لا يمكن القول إنهم في صف القاهرة.
لكن لماذا نرى هذا؟ أحد الأسباب لحدوث ذلك الوضع القانوني في البلاد، إذ يعمل كل من لديه سلطة اتخاذ القرار في القاهرة إما لصالح الرئيس أو في حكومته، فضلاً عن أنه لا أحد في الإدارة المحلية اليوم بحاجة إلى سكان للحفاظ على وظيفته. ويقوم الرئيس بتعيين محافظ القاهرة، في حين يقوم رئيس الوزراء بتعيين رؤساء الأحياء والمناطق فيها. ويقوم المحافظ بتعيين حاشيته بنفسه، بينما يتم إنجاز معظم القضايا البيروقراطية المحلية للمدينة ضمن الوزارات الوطنية. وتبقى المجالس الشعبية المحلية الهيئات الوحيدة المنتخبة في الإدارة المحلية. وكانت تلك المجالس في عهد مبارك ممتلئة بالأعضاء الموالين للحزب الوطني، أما اليوم، فلا توجد مجالس شعبية محلية على الإطلاق. مع النظر لكل ما سبق، فقد أدى الهيكل الإداري الحالي هذا إلى وجود فجوة واسعة بين السكان والحكومة، وقلل من ثقة الناس بالحكومة. ولن تعود تلك الثقة ببناء عاصمة جديدة، بل بإعطاء شخص ما الصوت والصلاحية لتمثيل سكان القاهرة والتحدث باسم القاهرة نفسها.
لكن كيف يمكن لحكومة لديها أموال محدودة وسكان محبطين إعادة اختراع نفسها وتنشيط المدينة؟ في أوائل العقد الأول من القرن العشرين، قام إدي راما بهذا. كان راما رئيساً لبلدية تيرانا في ألبانيا من عام 2000 إلى عام 2011، وقام بتنفيذ مشروع فريد لإعادة إحياء المدينة تسبب في تغيير شكلها من ناحية، ومن ناحية أخرى أعاد تشكيل سكانها عبر غرس الشعور بالانتماء والفخر.
عانت ألبانيا بين عامي 1954 و1991 من نظام حكم عسكري شيوعي، وكانت واحدة من أكثر الدول انعزالاً في العالم، حيث كان يُسمح لقلة محدودة من السكان بالسفر إلى الخارج، وكانت السيارات ممنوعة على الجميع باستثناء المسؤولين الحكوميين، وكان الاقتصاد في غالبه زراعياً، وكان السكان فقراء. وكانت السياسية المحلية خلال سنوات الشيوعية الخمسين في البلاد تحت سيطرة الحكومة المركزية، والمدن يتم تخطيطها مركزياً. ويمكن لدى رؤية ميدان “سكيندربرغ” (ميدان “التحرير”) في تيرانا أخذ فكرة عن نهج النظام وقتها تجاه المدينة وأسلوبه للتنمية الحضرية. ففي السابق، كانت الساحة تضم سوقاً يعود إلى العهد العثماني، لكن في منتصف سبعينيات القرن العشرين، تم تسوية السوق بالأرض واستبداله بساحة إسمنتية ضخمة خالية من الأشجار أو المقاعد أو الملاعب، تحيط بها مباني إسمنتية جرداء تهدف إلى جعل السكان يشعرون بأنهم مكشوفين وغير محصنين. كانت الساحة، وفقاً لراما، “قلب تيرانا الفارغ” (Kramer 2005).
تم حل النظام الشيوعي في البلاد في عام 1991 لتنتقل ألبانا على مدار السنوات السبع التالية من دولة شيوعية ذات اقتصاد مركزي إلى دولة ديمقراطية ذات اقتصاد السوق المفتوح. وعانت البلاد خلال تلك الفترة الانتقالية من أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية، إذ انهار اقتصاد البلاد مباشرة بعد انفتاحها على بقية العالم ليتراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي من 640 دولاراً في عام 1990 إلى 280 دولاراً في عام 1992 (World Bank 2015). ودفعت الأزمات الاقتصادية والسوق الزراعية المفتوحة بمئات الآلاف من الألبان للهجرة من الريف إلى المدينة، وكان لمدينة تيرانا نصيب الأسد منهم. ففي عام 1991، كان تعداد سكان تيرانا حوالي 250 ألف نسمة يشكلون أقل من 8% من إجمالي تعداد سكان البلاد. لكن تضخم من عوقتها عدد السكان ليصل بحلول عام 2001 إلى 600 ألف شخص (750 ألفاً مع حساب ضواحي المدينة)، أو حوالي 25% من تعداد السكان. وتعرضت تيرانا خلال فترة النمو الصاعقة تلك إلى عملية تدمير وحشية لآثار الشيوعية وتفشى البناء غير المنظم محتلاً في غضون عشر سنوات معظم الأماكن العامة في المدينة ليخنق نهر لانا الذي يمر بوسط المدينة. صحيح أن هذه الهياكل المؤقتة ساعدت في إزالة كل ما يمت إلى عهد الشيوعية من الأماكن العامة للمدينة، ولكنها دمرت أيضاً إمكانات الجمال والحيوية فيها (Pusca 2008)
وفي أعقاب انهيار النظام الشيوعي، قامت الحكومة المركزية بعد إصلاحات اقتصادية رافقها بوضع إطار قانوني ونظام تمويل للحكومات المحلية. وبدأت عملية اللامركزية هذه في عام 1992، ولكن بقيت الحكومات المحلية خلال معظم فترة التسعينيات خاضعة لسيطرة الحكومة المركزية. إلا أنه وفي عام 1999، أصدرت ألبانيا دستوراً جديداً للبلاد تضمن مبدأ “اللامركزية في السلطة والتي تُمارس وفقاً لمبدأ الحكم الذاتي المحلي” (المادة 13، الدستور الألباني 1999).
وفي العام التالي، تبنت ألبانيا استراتيجية رسمية لتطبيق اللامركزية حددت رؤية ألبانيا طويلة الأجل للحكومة المحلية. وأصدرت البلاد قانوناً ناظماً للحكومات المحلية وعملها، حيث تبنت نظام حكم محلي ثنائي المستوى، تكون الأقاليم في المستوى الأول، والبلديات (المراكز الحضرية) والكوميونات (المراكز الريفية) في المستوى التالي. ويترأس الأقاليم محافظون تعينهم الحكومة المركزية، في حين يتم تعيين جميع رؤساء البلديات وأعضاء المجالس البلدية/القروية بالانتخاب. وتم منح الحكومات المحلية سلطة كاملة لاتخاذ القرارات الخاصة بالخدمات العامة المحلية فيها مثل الطرق، ومياه الصرف الصحي، والمساحات العامة والخضراء، والإضاءة العامة، والمياه، والتنمية الاقتصادية المحلية، والثقافة والرياضة المحلية. كما أعطى القانون الحكومات المحلية سلطة توليد إيراداتها الخاصة وإنشاء ميزانية سنوية خاصة بها.
وبقيت الحكومة المركزية محتفظة بحقها في تطبيق وإنفاذ قوانين ضريبة الممتلكات في تيرانا، وتحديد حجم قوة شرطة المدينة، والتحكم في إمدادات المياه والكهرباء إليها (مع قدرة المدينة في الوقت نفسه على التحكم في كيفية توزيعها)، وإدارة جميع المدارس والمستشفيات. علاوة على ذلك، قلّصت الحكومة التحويلات المالية إلى السلطات المحلية بشكل كبير، على اعتبار أنه بات لتلك السلطات صلاحيات أكبر وقدرات أكثر على توليد عوائد مالية. وفي عام 2000، كان 72% من الميزانيات المحلية تحويلات مالية غير مشروطة من الحكومة المركزية، ما لبثت أن انخفضت في عام 2005 إلى 35%. وتسبب هذا بفرض ضغوطات كبيرة على المدن في معرض سعيها لإيجاد مصادر تمويل بديلة (Brahimi et al. 2013).
تم انتخاب إدي راما رئيساً لبلدية تيرانا في عام 2000. وكانت المدينة عندما تولى منصبه في حالة يرثى لها، إذ كانت الشوارع مجرد ممرات لنقل الناس والبضائع من مكان إلى آخر، ولم تولِّد الديمقراطية والأسواق الحرة العوائد التي كان الناس يأملون بها. وكانت المدينة بحاجة إلى عمل هائل، لكنها كانت تعاني في الوقت نفسه من ضائقة مالية (كانت تقديرات راما تشير إلى أن لديه فقط 26 مليون دولار أمريكي للمشاريع العامة في عام 2005، أو حوالي 11 دولاراً أمريكياً للفرد). وكان يستحيل على الحكومة المركزية أيضاً تقديم التمويل لمشروع تجديد حضري كبير في المدينة. بالتالي، قام راما بأمر غير تقليدي وهو: استخدام الرسم. لقد أراد إعادة اختراع تيرانا بالألوان مع دعوة السكان في الوقت نفسه لإعادة تخيّل مستقبلهم بتفاؤل.
كان وصول راما إلى رئاسة بلدية تيرانا أمراً غير متوقع، فقد كان والده واحداً من أعظم نحاتي البلاد في القرن العشرين. عاش راما خلال فترة التسعينيات في باريس يدرس الفن ويمارسه. أما في صباه، وقبل انتقاله إلى باريس، فقضى وقته كقائد لحركة ديمقراطية شابة في ألبانيا وجلس ضمن مجلس إدارة “مبادرة المجتمع المفتوح” لجورج سوروس، حيث عمل مع مثقفين آخرين يشابهونه في التفكير لصياغة مستقبل ديمقراطي منفتح لألبانيا. وصف سياسته عندما كان شاباً بأنها “متأثرة بباريس وغير متناسبة مع تيرانا بالمرة”. واصل مشاركته مع الحركة الديمقراطية من خلال كتابة مقالات لعدد من المجلات والصحف في ألبانيا اجتذبت انتباه الكثير من الناس في السلطة.
وفي عام 1997، وخلال زيارة قصيرة له للبلاد، تعرض راما لضرب مبرّح على يد رجلين يُشاع بأنهما بلطجية استأجرهما معارض سياسي. مشى راما، الذي كان يعاني من جمجمة مكسورة ووجه مشبع بالكدمات والدماء، إلى المستشفى لتلقي العلاج، لكن قبل وصوله إلى هناك، مر بمنزل مصور بهدف توثيق الحدث بـ”أسلوب إدي راما” كما قال. ثم عاد راما إلى ألبانيا مرة أخرى لما كان من المفترض أن يكون زيارة لمدة أربعة أيام، ولكن أثناء إقامته، عيّنه رئيس الوزراء وزيراً للثقافة. وعمل راما وقتها على ترميم مسجد “عاصم بك” وبرج الساعة المجاور له في ميدان التحرير واللذان يعودان إلى العهد العثماني. وكانت تلك أول محاولة له لإعادة إحياء الساحة، ولكنها بالتأكيد لم تكن الأخيرة. وخلال فترة عمله في الوزارة، وحياته ومعيشته في تيرانا، صاغ ما أسماه “العقد الأخلاقي” مع المدينة والمواطنين. وقرر راما لاحقاً الترشح لمنصب رئيس البلدية ليفوز بالمنصب. (Kramer 2005).
ورأى راما فكرة الرسم كفكرة طبيعية مستوحاة من إحساسه الفني وإيمانه الراسخ بقدرة الفن على تحويل الناس، حيث حاول من خلال فكرته تحويل المدينة إلى لوحة قماشية والتواصل مع السكان من جديد ممن فقدوا ثقتهم بالحكومة منذ زمن طويل.
وكان لون أول بناء خضع لتجربة راما الرائعة هو اللون البرتقالي والذي اختاره بنفسه. وحاول مسؤول فرنسي في الاتحاد الأوروبي، لدى رؤيته لتلك النتائج غير التقليدية، إيقاف المشروع بالتهديد بقطع التمويل عنه، وقائلاً لراما إن اللون لم يستوف “المعايير الأوروبية”. يتذكر راما، أستاذ الإعلام، قوله للمسؤول، “حسناً. . . إن [الألوان] هي بالضبط ما نريد. وإذا لم تدعنا نستمر في عملنا، فسأعقد مؤتمراً صحفياً هنا فوراً، على قارعة الطريق هذا، وسأقول للناس إنك تمارس رقابة عليّ كما كان يفعل النظام الاشتراكي تماماً” (Rama 2010). قرر المسؤول العدول عن قراره، واستمر المشروع.
وخلال الفترة التي تولى فيها راما رئاسة البلدية، ازدانت العشرات من المباني في جميع أنحاء تيرانا بألوان زاهية ونابضة بالحياة مع أشكال ورسومات متنوعة. وصحيح أن الفن جعله أحد أكثر رؤساء البلديات شهرة في العالم، إلا أن التزامه الثابت تجاه تيرانا وسكانها، وقدرته على حشد الناس لقضيته هما ما كان وراء نجاحه الكبير، الذي دفعه لاحقاً إلى تولي أبرز منصب في البلاد، مع انتخابه كرئيس وزراء لألبانيا في عام 2013.
”عندما أفكر في الحكم – وكم هو سهل – أشعر بالمرض“ – إدي راما
كان راما خلال عهده كرئيس بلدية براغماتي؛ فلم يكن لا يسارياً ولا يمينياً. عمل لإنجاز الأمور وعمل مع أي شخص يساعده. وكان يؤمن أن الانقسامات في ألبانيا ليست سياسية بقدر ما كانت بين من يساهمون في المجتمع وبين من يستغلونه لمآربهم؛ أي “أولئك الذين يعملون بجد وأولئك الذين لا يحترمون العمل” (Kramer 2005). وأكد راما على سيادة القانون والنظام، ورأي في تيرانا مدينة فقد فيها الناس الأمل في المستقبل ولم يهتموا كثيراً بالحاضر. وآمن راما، بغرض إعادة تشكيل المدينة، أنه بحاجة لإشراك الناس في هذا التغيير. وكانت مبادرة الرسم التي قدمها واحدة من مبادرات عديدة قام بها في تيرانا، إذ تعامل مع المناطق غير الرسمية، ووضع خطة جديدة للمدينة، وجلب مطورين محليين ليعملوا على تحقيق رؤيته.
كان التطور غير الرسمي في التسعينيات تحدياً كبيراً لراما، إذ خسرت المدينة معظم مساحاتها العامة الخضراء، خصوصاً على طول نهر لانا الذي يمر عبر وسطها. كما كان محيط المدينة يتوسع بسرعة من خلال المستوطنات غير الرسمية لاستيعاب تدفق المهاجرين من الريف. كان راما يكره الأبنية غير الرسمية التي طمست المساحات العامة على النهر ليقوم حالما استتب له الأمر بهدمها جميعاً. كما قام بتنظيف النهر، وأعاد المساحات الخضراء إلى العموم كحدائق حضرية. أما فيما يتعلق بالمناطق السكنية غير الرسمية على أطراف المدينة، فقد اتبع معها مقاربة مختلفة تماماً، حيث وسع شبكات المرافق، وبنى المدارس والمستشفيات والحدائق العامة فيها، مشجعاً السكان على “تحويل أكوام الطوب إلى منازل قانونية” بمنح صكوك الملكية للأشخاص الذين بنوا منازلهم بأنفسهم ((Kramer 2005, 6.
كما أطلق راما أيضاً مسابقة دولية لإنشاء خطة حضرية لتيرانا وإعادة تصور ساحة التحرير. وقدمت شركة فرنسية تدعى Architecture-Studio الخطة الفائزة والتي تضمنت إنشاء عشرة مباني مكتبية وسكنية بطول 280 قدماً (تقريباً بطول مئذنة مسجد السلطان حسن) لتحديد الشوارع والمساحات في منطقة الساحة المركزية. كما أنشأ التصميم مناطق مختلفة في جميع أنحاء المدينة يمكن من خلالها لراما وحكومة المدينة التحكم بسهولة في تطوير المدينة1.
وكان الفساد المستشري أحد التحديات الأخرى التي واجهها راما في تيرانا ما بعد الشيوعية، إذ كانت صناعة البناء والتشييد من بين الصناعات الأكثر تفضيلاً لغسيل الأموال، فضلاً عن أن شركات المقاولات العاملة في ألبانيا كانت فاسدة بدورها. عرف راما ذلك، لكنه أدرك أيضاً أنه إذا وضع تصميمه للمدينة قيد التنفيذ، فعليه أن يعمل مع مالكي العقارات ومالكي الأموال.
واستفاد راما من القوانين اللامركزية لتطبيق خطته الرئيسة الجديدة، والتي تغطي جميع المناطق المركزية في تيرانا وأغلب المناطق المحيطة بها. واستخدم صلاحياتها كرئيس بلدية لنيل أكبر مكاسب ممكنة من المطورين، حيث قال بأنه لن يسمح لهم ببناء أي شيء آخر بخلاف ما هو مدرج في الخطة. كما طالبهم أيضاً بالمساهمة بأي معلم في المدينة – حديقة أو مدرسة أو مستشفى – إذا كانوا يرغبون في بناء أي شيء على الإطلاق في وسط المدينة، والمناطق الواقعة ضمن المخطط التنظيمي فيها. وعمل المطورون بغضب مكبوت مع راما. فعلى سبيل المثال، تم تصميم أول برج تم بناؤه في تيرانا على يد مجموعة من المهندسين المعماريين البلجيكيين الشباب. ووافق على التصميم لجنة تحكيم أنشأها راما لمراقبة التطور الحضري للمدينة. لكن لم يكن البناء تقليدياً وكان أيضاً مكلفاً، حيث كان أبرز ما يميزه واجهته الخارجية الشبكية والتي استدعت تركيب ألواح التراكوتا المزجج. أُعجب راما بذلك واعتقد أنه سيكون أول مبنى معروف دولياً في تيرانا. وكان المطور يفضّل بناء برج أقل تكلفة من الصلب والزجاج مع مركز تجاري في الطابق الأرضي لتعزيز أرباحه، لكن في النهاية سادت رؤية راما. وكان سبب غلبة راما قيامه بوضع عرض بسيط جداً مفاده: إذا لم يقم المطور ببناء البرج، فلن يتمكن من بناء أي شيء على الإطلاق في المدينة مستقبلاً.
ويمكن للمصريين أخذ العبرة من هذا. أدرك راما محدودية الأصول التي تقدمها العقارات للجزء المركزي من المدينة، بالتالي لم يحاول مطلقاً جذب رؤوس الأموال الأجنبية لهذه المشاريع من خلال تقديم قروض مواتية، أو إعفاءات ضريبية، أو تقديم العقارات الرئيسة بأسعار منافسة. قام بدلاً من ذلك باستخدام المطورين المحليين والأموال المحلية لإنشاء مساحات جذابة بطبيعتها لسكان تيرانا أولاً، مع معرفته بأن المستثمرين الأجانب سيأتون لاحقاً. صحيح أن شركات المقاولات الكبيرة متعددة الجنسيات جذابة لأنها تجلب الكثير من الخبرة والرؤية والمال، في حين قد لا يكون لدى المطورين المحليين ذلك، لكن لدى المطورين المحليين في الوقت نفسه خيارات محدودة فيما يتعلق بأماكن استثمار أموالهم. ويمكن للشركة الدولية في كثير من الأحيان أن تملي شروط اتفاقية البناء مع الحكومة لأن في إمكانها تأخير عمليات البناء لفترات طويلة دون خسارة الكثير ويمكنها أن تهدد أيضاً بنقل أموالها إلى مكان آخر. أما المطورون المحليون، فلديهم رأسمال صغير نسبياً، بالتالي قد يكون الاستثمار في وسط مدينة تيرانا هو أكثر أصولهم قيمةً، بالتالي لا يستطيعون ببساطة تأخير العمل، وسيكونون أيضاً أكثر استعداداً للعمل برؤية الحكومة المحلية.
بعد عشر سنوات من نهج راما الفريد لتطوير المدينة، أصبحت تيرانا واحدة من أكثر العواصم تميزاً في أوروبا. لم تكن مدينة كلاسيكية أو فخمة أو لديها ما لدى مدن أخرى مثل براغ أو وارسو أو مدريد أو روما. لكنها مدينة نابضة بالحياة والحيوية وصالحة للعيش. الناس دائماً في الشوارع والأماكن العامة ممتلئة. نهر لانا نظيف وتوجد المساحات الخضراء على ضفتيه.
إن تيرانا مدينة أصغر بكثير من القاهرة، وهناك تساؤلات حقيقية حول ما إذا كان بإمكان شخصية مثل راما أن تحقق في القاهرة ما فعله هو في تيرانا. ولكن الحقيقة البسيطة هي أنه، مثل رؤساء البلديات الآخرين الذين ناقشناهم في مقالات الأخرى مثل خايمي ليرنر من كوريتيبا في البرازيل وجوكو ويدودو من سورابايا بإندونيسيا، لا توجد فرصة لشخص مثل إدي راما لدخول المعترك السياسي في القاهرة، إذ يتم تعيين ذوي الأمر والنهي في القاهرة من قبل الحكومة المركزية، ولا يكون ولاءهم لأهل المدينة بل للرئيس و/أو الجيش. ولا يوجد سياسيون في القاهرة يستطيعون الدفاع عن المدينة أو أهلها. إن القاهرة مقيدة جداً بالأسطورة الوطنية وهيبة البلاد بحيث لا يستطيع أي شخص أن يقوم بعمل مشاريع لصالح لقاهرة وفق شروطه، ناهيك عن أن الحكومة الوطنية لن تسمح مطلقاً لشخص مثل راما، شخص ينتخبه الشعب، بالتحكم في المدينة.
نحن لا نقترح أن تحاكي الحكومة نهج الرسم في تيرانا، فله أيضاً حدوده. فلم يرسم راما بهدف الرسم في حد ذاته، بل رآه وسيلة لتحقيق غاية. لم يرسم للجمال بمفرده ولم يرسم لجلب الثقافة لشعب تيرانا أو “لتحضير” المهاجرين من ريف ألبانيا، بل رسم لفتح أعين الناس ليلاحظوا مدينتهم وليخرجوا من منازلهم إلى الشوارع. كان الرسم هو محاولته لفتح حوار بين الحكومة وسكان المدينة الذين رأوا، لسنوات عديدة، حكومة تعمل ضدهم لإثراء نفسها. بدأ الحوار بين السكان والحكومة حول المباني ولكن سرعان ما انتقل إلى احتياجات الناس. واستمع راما وفهم أن أولويته الأولى كانت تتمثل في تلبية احتياجات الناس؛ ليس عبر توفير حل، بل عبر إتاحة الفرصة لهم لإيجاد حلول بأنفسهم.
سيكون من غير الواقعي وصف مخطط تنشيط راما بأنه معشوق عالمياً أو كنجاح هائل، إذ كان لديه منتقدوه الذي يعتقدون بأنه كان صلب المراس في رؤيته، لكنه كان يعمل ذلك لأجل المدينة. وتمكن راما مع وجود التشريعات المناسبة من استخدام تفانيه في إعادة تشكيل تيرانا للأفضل.
ربما من الجيد وجود نية للحكومة المصرية في الخروج من القاهرة، إذ ربما يسمحون وقتها لنا باختيار شخص يهتم بالمدينة ليترأسها.
Brahimi, Fran, Fiqiri Baholli, Nazir Heldeda, and Ines Dika. 2013. “Decentralization Reform, Case of Albania.” Mediterranean Journal of Social Sciences 4(10).
https://www.mcser.org/journal/index.php/mjss/article/viewFile/1224/1253
Kramer, Jane. 2005. “Painting the Town: How Edi Rama reinvented Albanian politics.” The New Yorker, June 27. https://www.newyorker.com/magazine/2005/06/27/painting-the-town
Pusca, Anca. 2008. “The Aesthetics of Change: Exploring Post-Communist Spaces.” Global Society, 22(3), pp. 369-386.
Rama, Edi. 2010. “Take Back Your City with Paint.” Filmed May 2012 in Thessaloniki, Greece. Ted Video, 15:27. https://www.ted.com/talks/edi_rama_take_back_your_city_with_paint?language=en
Triantis, Loukas. n.d. “Urban change and production of space: The case of urban renewal in Tirana (2000-2008).” https://bit.ly/2QcIwlx
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments