«تعرف ناهيا؟»
لو سألت شخصاً من سكان القاهرة أو الجيزة عن ناهيا، فإنه سيجيبك غالباً ليس عن القرية وإنما عن شارع ناهيا، أو ربما كوبرى ناهيا بمنطقة بولاق الدكرور بمحافظة الجيزة. قلّة قليلة فقط هي التي تعرف أن اسم الشارع – الممتد بمنطقة بولاق الدكرور – يرجع في الأصل إلى تلك القرية الواقعة بمركز كرداسة بالجيزة، وأن الشارع لم يُسمَّ بهذا الاسم إلا فقط لأنه الطريق المؤدي إليها.
والطريق ليس هو المعلم الوحيد في القاهرة الكبرى الذي قد يرجع الفضل في تسميته إلى قرية ناهيا، فهناك أيضاً ترعة الزُمُر التي تفصل منطقة أرض اللواء عن حي المهندسين، والتي سميت كذلك نسبةً لتلك العائلة التي كانت تتملّك بناهيا الكثير من الأراضي الواقعة على مجرى هذه الترعة.
تقع قرية ناهيا على الأطراف الغربية للقاهرة الكبرى، ويمكن الوصول إليها من شارع ناهيا (بطبيعة الحال) الذي يبدأ من شارع السودان بمنطقة المهندسين، مروراً ببولاق الدكرور. والتوجه من القاهرة إلى ناهيا يتطلب القيام بالتنقل بين وسيلتين للمواصلات أو أكثر. وتشترك هذه الوسائل فيما بينها في أنها كلها “أهالي” (أو مواصلات خاصة)؛ حيث أن القرية لا تخدمها خطوط مواصلات عامة. فمن محطة الإسعاف بوسط القاهرة تقوم الميكروباصات بنقل الركاب إلى بولاق الدكرور، ومن هناك تعتبر الوسيلة المثلى للذهاب إلى ناهيا هي الميكروباص (أيضاً) أو “التوك توك”‘. ويعتبر الأخير وسيلة المواصلات الوحيدة المتاحة للتنقل داخل القرية نفسها. أما عند استخدام السيارة الخاصة، فالأفضل في هذه الحالة سلوك الطريق الدائرى حتى مَنزَل كرداسة، والاستمرار باتجاه كرداسة ثم عبور ترعة الزمر، ومن ثم الاتجاه من هناك يميناً إلى ناهيا.
ناهيا فى أرقام
المحافظة: الجيزة
المركز: كرداسة
المساحة: 1,9 كم مربع (حسب الصور الجوية)
عدد السكان: 44 ألف نسمة (حسب الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء في عام 2006)
حكاية “ناهيا”
تتحدث المصادر التاريخية عن قرية مصرية قديمة اسمها “نِـهت” كانت مكرّسة لعبادة الإلهة حتحور، ويذكرها معجم البلدان باسم “نهيا”، أما الخطط التوفيقية فتشير إليها بـ”نهية”؛ هذا بالنسبة إلى الاسم. أما عن تاريخ القرية، فيظهر لنا أن ناهيا كانت دائماً مملوكة لحاكم مصر، خاصة في الفترة التي تلت الفتح العربي حتى العصر الفاطمي، فكل من ناهيا وصفط اللبن وكفر طهرمس كانت ضياعاً مملوكة لخمارويه بن أحمد بن طولون (282 هـ/896 م) حيث تم تخصيصها لزراعة العلف الخاص بدواب الأمير. كما كانت القرى الثلاث المتجاورة –ومعهم أوسيم- تقع جميعها ضمن أملاك بدر الدين الجمالى (1015 – 1094 م) أحد الوزراء العظام الفاطميين. وفي كتابه “الانتصار لواسطة عقد الأمصار”، يخبرنا ابن دقماق أن ناهيا كانت إحدى الأراضى المحبوسة للديوان السلطانى، وقد ظلت ناهيا كذلك إلى أن تولى صلاح الدين الأيوبى حكم مصر، فحبسها للإنفاق على الأسطول المصري.
لا بد أن نستنتج من ذلك مدى الطبيعة الخصبة التي كانت تتمتع بها القرية، وهو ما أضفى عليها قديماً طبيعة ريفية خلابة. فكتب التاريخ تحدثنا عن أنه كان بناهيا دير – لم يُستدل حالياً على مكانه – «من أحسن الأديرة وأنزهها وأطيبها» حيث كانت مياه الفيضان تصل إليه وتحيط به لمدة، قبل أن تنحسر عنه مخلفة من حوله «مروجاً مزهرة» وكان مزاراً الخلفاء الفاطميين كالمعز لدين الله والآمر بالله ومحلاً لاستضافتهم لأشهر طويلة. (المقريزى)
ولا ينحصر تاريخ ناهيا في مجرد حدث تنقل ملكيتها من حاكم لحاكم، فلقد كانت القرية مسقط رأس لعدد من الشخصيات المؤثرة في التاريخ المصري، كالشيخ محمد المهدي الذي يرى لويس عوض أنه كان بمثابة أول رئيس وزراء مصري في العصر الحديث. ووفقاً لكتاب ”ناهيا في ذاكرة التاريخ وقلب الحدث” لأحمد عبد اللطيف الزمر (ابن ناهيا) فإن دور الشيخ قد برز عندما احتد الصراع بين الشعب المصري وخورشيد باشا الوالي العثماني، واستعان وقتها قادة الشعب بمحمد علي كبديل للوالى المعين من قِـبل السلطان. فكان أن اجتمع العلماء والمشايخ وسط تجمع شعبي كبير في 13 مايو 1805 وأعلنوا عزل خورشيد باشا عن الحكم وتولية محمـد عـلي. محضـر هـذا الاجتماع تمت كتابته بخط يد الشيخ المهدي نفسه، وقد جاء فيه ما نصه: «إن للشعوب، طبقاً لما جرى به العرف قديماً وما تقضي به أحكام الشريعة، الحق في أن يقـيمـوا الـولاة، ولهـم أن يعـزلوهـم إذا انحرفوا عـن سنن العـدل وساروا بالظلم؛ لأن الحكام الظالمين خارجـون عـلى الشريعـة.» (تاريخ الحركة القومية للرافعي – الجـزء الثاني) وهى الرسالة التي قال عنها لويس عوض، في بحثه عن الحياة النيابية في العصر الحديث، إنها أرست مبدأ أن الأمة مصـدر السلطات، وأن هـذه الجملة كانت تمهيداً لنشأة الفقـه الدستوري في تاريخ مصر الحديث.
لكن في نهج مغاير تماماً لذلك المبدأ الذي عمد الشيخ المهدي إلى إرسائه، تشدد محمد علي في سياسة الحكم المنفرد وإزاحة أي زعامة شعبية قد تهدد انفراده بحكم مصر، وكان من ضمن تلك الزعامات الشيخ المهدي نفسه، الذي رفض محمد علي تعيينه بالأزهر. وقد كانت إحدى تلك التدابير الرامية إلى إحكام قبضة محمد علي على البلاد، والتي لها علاقة بحكايتنا عن ناهيا، أنه قام بضم كل الأراضي المصرية إلى أملاكه، لم يستثنِ من ذلك إلا الأراضي التي استطاع أصحابها إثبات ملكيتهم لها. وهو الأمر الذي انطبق على ناهيا، حيث كان الشيخ أحمد الزمر يمتلك ألفي فدان بها كانا قد آلا إليه قبل 30 عاماً، وذلك كمكافأة له من محمد بك أبو الدهب نظير مساندته له في انقلابه على سيده علي بك الكبير (والذي كان بدوره قد انقلب على السلطان العثمانى في محاولة باءت بالفشل لاستقلاله بحكم مصر). وهكذا بقيت ناهيا خارج نطاق أملاك محمد علي؛ وهو ما يفسر تسمية ترعة الزمر باسم هذه العائلة، كما يوضح الأصول التاريخية والعريقة لعائلة الزمر التي اشتهر من بين أبنائها العديد من الأسماء، سواء اللامعة أو المثيرة للجدل. منهم اللواء أحمد عبود الزمر وهو أحد أبطال حرب أكتوبر، ومنهم أيضاً عبود الزمر الذي كان واحداً من مدبري عملية اغتيال الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات، وهناك الإعلامية بالتليفزيون المصري فريدة الزمر، بالإضافة إلى شخصيات مؤثرة أخرى برزت من عائلات أخرى معروفة في ناهيا، مثل عصام العريان القيادي بجماعة الإخوان المسلمين، ومحمد أبو تريكة لاعب الكرة السابق بالنادي الأهلي وصاحب الشعبية الكبيرة.
المكان وأهله
مثل كل القرى المصرية، كان تخطيط ناهيا حتى القرن الماضي يتكون من نسيج عمراني مركزي مغلق على نفسه، يتسم بشوارعه الضيقة غير المستقيمة ومنازله المتلاصقة بعضها ببعض. يحيط بهذه المنازل طريق دائري يسمى “داير الناحية”، يفصل بينها وبين الأراضي الزراعية الممتدة فيما حولها. ثم بدأت القرية تتمدد في جميع الاتجاهات بخطى متسارعة على حساب الأراضي الزراعية؛ لتصبح المناطق المبنية حديثاً عبارة عن امتدادات شريطية الشكل، متبعة في ذلك تقسيمات الأحواض الزراعية التي حلت محلها.
ولم يبقَ الكثير من المظهر الريفي القديم لمنازل القرية، التي تم هدمها وإقامة منازل أحدث من الخرسانة المسلحة مكانها. وبينما لا يخلو المكان من بعض المنازل القديمة إلا أنها صارت تمثل أقلية وسط عمران القرية، الذي أصبح السائد فيه المنازل متوسطة الارتفاع بنحو أربعة طوابق في المتوسط. وعامة فإن هذه المنازل الأقدم مآلها يبدو إلى زوال، حيث إن حالها يشهد بالتدهور والإهمال، وذلك في مقابل المتانة الإنشائية التي تتمتع بها المباني الأحدث بطبيعة الحال. وهذا ليس المصير الذي قد ينتظر بيوت القرية القديمة فقط ولكن هذا ما حدث أيضاً لأحد أهم مبانيها، فمسجد سيدي عمر العراقي يرجع تاريخ بنائه إلى القرن التاسع عشر، وقد أجريت لهذا المسجد القديم عملية ترميم جائرة في التسعينيات كانت أقرب للهدم والبناء ، فأفقدت المسجد – للأسف – قيمته التاريخية.
إلا أنه، على الرغم من هذا الانحسار المتزايد لطابع البناء التقليدى بالقرية، فإن التركيبة الاجتماعية فيها ظلت محتفظة بالبنية العائلية المميزة لها؛ هذا الثبات المجتمعي ولّد لدى أهالي القرية حساً عالياً بالاعتزاز بالمكان. وكان لتأثير العائلات الكبيرة فيها، والذي يتبدى في العديد من المبادرات والجهود الذاتية بها، فاعليته في التخفيف من حدة بعض مشكلات ناهيا، مثل مشروعهم لجمع القمامة، ومبادرتهم لبناء وحدتين لغسيل الكلى لمرضى القرية. ومن خلال جهودهم الفعالة لإشراك الإدارة المحلية والجهات الحكومية بالمحافظة فى مثل هذه المبادرات والمشروعات الذاتية، نجح الأهالى فى ناهيا فى دفع هذه الجهات لبذل مزيد من الجهد فى تقديم الخدمات التى يفتقر إليها مجتمعهم.
وعلى الرغم من تناقص مساحة الرقعة الزراعية، فإن الزراعة بقيت نشاطاً اقتصادياً هاماً كما كانت دائماً في ناهيا، خاصة مع تربتها الخصبة التي كانت عاملاً أساسياً وراء رغبة حكام مصر المتوالين في الاستحواذ عليها. هذا بالإضافة إلى عمل بعض الأهالي إما في صناعة السجاد، الذي تشتهر به قرية كرداسة القريبة، أو في صناعة المنسوجات. وثمة بالقرية تركز لعدد من مصانع الطوب الإسمنتي التي تبيع إنتاجها لسوق البناء في القاهرة الكبرى. كذلك ساعد القرب النسبى لناهيا من القاهرة على أن تكون مصدراً للعمالة اليومية وبعض فئات الموظفين. هؤلاء نجدهم يتنقلون يومياً جيئةً وذهاباً – رغم صعوبة المواصلات – بين ناهيا التي يسكنون بها والقاهرة والجيزة حيث يعملون.
إيه المهم فى ناهيا؟
تتميز المجتمعات الريفية عامة بمستوى مرتفع من الترابط الاجتماعي واعتزاز الفرد بانتمائه العائلي، خاصة مع العائلات ذات الأصول العريقة. وفي ناهيا بشكل خاص فإن هذا الترابط والاعتزاز يتضاعف، وهو ما يمكن إرجاعه إلى الجذور الموغلة في التاريخ للعلاقة بين هذه العائلات العريقة، كعائلة الزمر مثلاً، وبين المكان. وتتأكد أهمية هذه العلاقة عندما تجرى ترجمتها إلى العمل العام الذي يبادر به أبناء القرية، والذي قد يأخذ شكل أنشطة تنموية أو خدمية أو خيرية، كما في العديد من الأمثلة الملموسة في حياة ناهيا الآن، كقيام الأهالي بتطهير ساحة المستشفى الموجودة بالقرية بعد أن أغرقتها مياه الصرف الصحي نتيجة – وفقاً للأهالي – لخطأ فني في تنفيذ الشبكة، كما قاموا بإصلاح مشكلة شبكة الصرف هذه بأنفسهم. وبالنسبة لمشكلة القمامة التي تعاني منها مؤخراً جميع المجتمعات المحلية في مصر، بدأت إحدى الجمعيات الأهلية هناك في مشروع لجمع القمامة وتدويرها. ونظراً لتفشي أمراض الكلى في ناهيا، أقام الأهالي بالجهود الذاتية مجموعة محطات لتنقية مياه الشرب ووحدتان للغسيل الكلوى. وعلاوة على كل تلك الأمثلة، فإن لأبناء ناهيا تجربة فريدة من نوعها تتمثل في بنائهم لنقطة شرطة خاصة بالقرية، بعد أن قاموا بتصميم مبناها بحيث يلائم متطلبات مجتمعهم ورؤيتهم هم عما يجب أن تكون
ففي مبنى نقطة شرطة ناهيا، نجد أن مكان الحجز جيد التشطيب والتهوية، في تعاطف واضح من الأهالي مع المواطن الذي قد يُحتجز بها لأي سبب من الأسباب، كذلك فإن غرفة المكتب الخاصة بالمأمور تحتل مساحة لا بأس بها، بينما لا يشغل مكان جلوس المأمور نفسه منها إلا جانباً محدوداً. وهو ترتيب يراعى أن أغلب الخلافات هناك لا تشب بين أفراد، كما في المجتمعات الأخرى بخلاف ناهيا والقرى المشابهة لها، ولكنها عندما تنشب فإنما تنشب بين عائلتين وربما أكثر؛ لهذا يجب، حسب رؤية أهالي ناهيا، أن تتسع غرفة المأمور لأكبر عدد ممكن من ممثلي العائلات المختلفة. وهى فكرة توضح أنه كما أن للبنية العائلية لمجتمع القرية إيجابياتها في إزكاء روح الاعتزاز والتعاون بين أفرادها، فإن لها أيضاً جانبها السلبي، والذي قد يتجلى في كيفية نشوب بعض النزاعات بين تلك العائلات.
وفي ظل التقلبات السياسية التي تمر بها مصر في الآونة الأخيرة، فقد شاركت ناهيا بنصيبها في الحراك الشعبي الدائر، خاصة أن بها تواجداً قوياً للتنظيمات ذات المرجعية الدينية، سواء تلك التي تكتفي بتقديم الخدمات الاجتماعية كالجمعية الشرعية، أو التي لها أهداف سياسية كجماعة الإخوان المسلمين. كما شهدت القرية في أعقاب ثورة 25 يناير نشاطاً ملحوظاً للحركات والتنظيمات الشبابية من أبناء القرية، كحركة 6 إبريل واللجان الشعبية، والتي ركزت بصفة عامة على التأمين والتوعية والخدمة العامة.
غير أن هذه الحيوية السياسية والحراك الشعبي لا يقفان عند الحدود المادية للمكان، بل أنهما يمتدان للفضاء الافتراضي أيضاً. هنا تأتى ناهيا الغد1 كأوضح مثال على هذه الظاهرة، وهي تجربة صحفية بدأها في 2006 مجموعة من أبناء القرية وبعض مثقفيها، وبدعم من سائر الأهالي هناك. هذه التجربة قامت في الأساس على موقع إلكتروني أنشأه أبناء ناهيا ليكون بمثابة صحيفة تتحدث بلسان حالهم وتخاطبهم من خلال شئون حياتهم واهتماماتهم اليومية. «وأساس المادة الصحفية (هو) قضايا ناهيا ومشاكلها سواء مياه أو كهرباء أو مواصلات، لذلك تجد (بها) حواراً مع رئيس المجلس المحلي عن مشاكل القرية، أو حواراً مع مشاهير القرية أو من يقدمون الخدمات بها، أو المبدعين من أهلها.» وذلك وفقاً لما يقوله مؤسس هذه الصحيفة الإلكترونية جمال الدرواي، والتي – لأسباب لم نرصدها – لم تعد نشطة إلكترونياً منذ 2013، سواء على موقعها الرسمي أوصفحتها على فيسبوك. وعندما نأتي لـفيسبوك، فنجده يشهد تنوعاً وتعدداً ملحوظين لتلك الصفحات التي أطلقها أبناء ناهيا عن قريتهم. ومن بينها صوت ناهيا ( 2,181 متابعا وقت كتابة هذا المقال)2 هى صحيفة إلكترونية ومطبوعة تصدرها مجموعة من شباب ناهيا، لكن أوسع تلك الصفحات انتشاراً هى الصفحات ذات الصبغة الإسلامية أو التوجه السياسي الداعم للتيارات ذات المرجعية الدينية – حتى وإن كانت خبرية المحتوى – مثلألتراس ناهيا (22,192 متابعاً وقت كتابة هذا المقال)2، شبكة أخبار ناهيا(21,039 متابعاً وقت كتابة هذا المقال) 2 تحالف ناهيا لدعم الشرعية (19,901 متابع وقت كتابة هذا المقال)2وهى صفحة تدعم –كما هو واضح من عنوانها- جماعة الإخوان المسلمين.
وعلى الرغم من أن هذه الصفحات وقنوات الڤيديو المنتشرة على الإنترنت عرضة طول الوقت للتوقف أو لتغيير موقعها الإلكتروني (كما في حالة “ناهيا الغد”) إلا أن أهميتها ليست فقط في كثافة متابعيها أو غزارة المادة التي تقدمها عن مجتمعها المحلى وتنوعها، في مثال رائع لما يسمى الآن بـ “صحافة المواطن”. لكن أهميتها تأتي في الأساس من كونها تقدم ملمحاً صادقاً، بل ربما متعمقاً، للحياة اليومية في قرية مصرية مثل ناهيا، بكل ما فيها من أحداث ومشكلات طارئة أو مزمنة، ولتفاعل الناس في مجتمع محلي قد يبدو منسياً وقصياً مع أخبار الوطن اليومية ومع أحداثه الكبرى.
ايه مشاكل ناهيا؟
هناك مجموعة من المشكلات التي تمثل قواسم مشتركة بين القرى المصرية، وناهيا ليست استثناءً لذلك. فثمة قائمة للعديد من مظاهر النقص أو التردى أو التلوث أو الإهمال الحكومي بالقرية، والتي يحاول أبناء ناهيا جاهدين الحد منها، سواء بمبادراتهم وجهودهم الذاتية أو من خلال دفعهم الحثيث للجهات الحكومية والإدارة المحلية للقيام بما هى منوطة به.
وقائمة المشكلات تبدأ من النقص الشديد في الخدمات الصحية، خاصة وأن مشكلة أخرى مثل تلوث مياه الشرب تسبب ارتفاعاً لعدد المصابين بأمراض الكلى في ناهيا. وتضم القائمة أيضاً ظاهرة البناء العشوائى على الأراضي الزراعية، التي – علاوة على كونها تؤدي إلى تآكل الرقعة الزراعية – تمثل عبئاً على البنية التحتية للقرية، المتهالكة أصلاً، فتسمح باختلاط مياه الصرف الصحي بمياه الشرب. وتزيد تلك الظاهرة – مع عوامل أخرى كالإهمال الحكومى وظاهرة إلقاء القمامة بالمصارف – من انسداد الترع وعدم صلاحية مياهها للري. الأمر الذي يدفع المزارعين لاستخدام المياه الجوفية، مما يزيد على كاهلهم تكلفة زراعة الأرض ويرفع من سعر السلعة الزراعية. يضاف إلى ذلك مشكلات أخرى مثل سوء حالة الطرق سواء داخل القرية أو تلك المؤدية إليها، وانعدام وسائل المواصلات العامة بين القرية والقاهرة.
صحيح أن أهالى ناهيا يتميزون بروح المبادرة والتعاون، الأمر الذي مكنهم من الحد من آثار العديد من المشكلات، إلا أن الحال كان سيكون أفضل طبعاً بكثير مع متابعة حكومية جادة، ومد فعال لشبكة الخدمات بحيث تشمل قريتهم وما حولها.
فعلى سبيل المثال، يفتقر مستشفى القرية الوحيد إلى طواقم الأطباء والتمريض، فنجد الأجهزة الطبية – التي تم التبرع بها للمستشفى من منظمة الروتاري – مهملة لا تجد من يستعملها. والمستشفى يحتوي على عيادة خارجية ليس إلا، دون غرفة عمليات أو قسم للطوارئ أو مرفق للإسعاف. وحتى وقت قريب، كانت المستشفى تسبح في مياه الصرف الصحي الناجمة عن خطأ في تنفيذ شبكة الصرف، مما أدى إلى نمو غابة من البوص والغاب إلى درجة أنها صارت تحجب رؤية مبنى المستشفى، وتحول المكان إلى بيئة نموذجية لانتشار القوارض والزواحف والحشرات. وما كان ذلك الوضع ليتغير لولا شباب القرية الذين تطوعوا لتطهير المستنقع والتخلص من النباتات الضارة، ثم تم إصلاح شبكة الصرف نفسها عن طريق جمع مساهمات أيضاً من الأهالى. والآن يحاول الأطباء والأهالى الحصول على موافقة وزارة الصحة لتحويلها إلى مستشفى مركزي لتقوم بدورها في رعاية سكان القرية الذين يناهز عددهم 44 ألف نسمة (حسب الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء في عام 2006)، غير أن الوزارة تجاهلت حتى الآن هذا الطلب (حسب رواية الأهالي) رغم إبدائهم الاستعداد لجمع التمويل اللازم. وفي انتظار الموافقة المأمولة، قام الأهالي بإنشاء وحدتين لغسيل الكلى الذي يمثل في هذه اللحظة ضرورة قصوى لمرضاهم، لكنهم بالطبع مازالوا مضطرين للذهاب إلى مستشفيات بعيدة للعلاج في حالات كثيرة.
فرص تطوير المنطقة
إن أي رؤية للتطوير في ناهيا يجب أن تعتمد بشكل أساسي على البنية المجتمعية القوية للقرية، والتي هي مصدر اعتزاز أبناء ناهيا بانتمائهم إليها. خاصة وأن هذه البنية المجتمعية والروابط العائلية مازالت هي ما يتم التعبير عنه في الشأن العام وأشكال العمل المدنى هناك، وذلك من خلال الانتماءات السياسية والجمعيات الأهلية. ففي جانبها الإيجابي، تعمل هذه التركيبة العائلية للمجتمع، بالإضافة إلى التعددية السياسية التي واكبت أجواء الثورة وما بعدها، على خلق مناخ تنافسي يحاول فيه الجميع تقديم حلول فورية لمشكلات الأهالي، وتوفير الخدمات التي يفتقرون إليها بصورة أساسية. كما شجع ذلك الأهالي على مزيد من المطالبة بحقوقهم والضغط على الجهات الحكومية لاكتسابها، وهذا ما رأيناه في العديد من المبادرات الشعبية بناهيا، والتي نجحت في تقديم بدائل أفضل لواقع حالهم، والذي نأمل أن يؤدى في النهاية إلى تحسن لأوضاع هذه القرية.
ولكن في حقيقة الأمر، يطرح الحراك المجتمعي القوي لقرية مثل ناهيا وأحوال التنمية بها العديد من التساؤلات والقضايا:
أولاً، غياب سياسة عمرانية فاعلة تتعامل مع التجمعات الريفية والقروية في مصر، تحكم علاقتها بالحضر وتحفظ لها خصوصيتها العمرانية، وخاصة التجمعات الواقعة على أطراف المدن مثل قرية ناهيا. فقد اندثرت العديد من تلك التجمعات القروية بالفعل تحت وطأة التحضر السريع، وحاصرت المناطق الحضرية الحديثة العديد منها واحتوتها بداخلها (مثل حالة منطقة المهندسين ومنطقة ميت عقبة). فتشير الإحصاءات الرسمية إلى أن عدد سكان المناطق الحضرية بمصر وصل إلى 44% من إجمالي عدد السكان في عام 2012، وذلك بمعدل زيادة سنوي يبلغ 2.0% بين عامي 2010 و2015 (يبلغ معدل الزيادة السكانية بالريف 1.4%، والمتوسط العام بمصر 1.7% وذلك عن نفس الفترة). تشير تلك الإحصائات إلى معدل تحضر مطرد لا يعبر فقط عن اتساع رقعة المناطق الحضرية، ولكن أيضاً عن التهام تلك المناطق للتجمعات الريفية والقروية المجاورة.
ويبقى السؤال الهام هنا: ما هو الريف المصري؟
ما الذي يمكن أن نعتبره منطقة حضرية، وما الذي يمكن أن نعتبره منطقة ريفية في مصر؟ وما هي خصائص كل منهما والتي بناء عليها يمكن أن نميز بينهما؟ في حقيقة الأمر، فإن التمايز بين ما هو حضري وما هو ريفي في مصر آخذ في الزوال. وبالتالي، تتحول مصر تدريجياً إلى عمران حضري بالكامل لا يتمايز في شيء إلا من ناحية حجم مستقراته العمرانية، ودرجة نقص الخدمات بها، أو قربها من المناطق الزراعية القائمة. فالمتجول في أجزاء عديدة من قرية مثل ناهيا لا يمكنه التمييز بينها وبين العديد من المناطق الحضرية في مصر. وبدلاً من وضع سياسات عمرانية تحمي خصوصية تلك المناطق وطابعها المميز، تؤدي الممارسات العمرانية الخاصة بتحديد كردونات المدن – وخاصة بالقرب من المناطق الزراعية – وغياب حكم محلي فاعل، إلي امتداد العمران بصورة متسارعة على الأراضي الزراعية والتهام ما كان يسمى في يوم ما بـ “الريف المصري”.
ثانياً، علاقة الريف المصري وتحولاته العمرانية والاقتصادية بمفهومي “الأمن الغذائي” و”السيادة الغذائية“. 3 فالسياسات العمرانية والاقتصادية القائمة تشكل – بصورة ما – تهديداً مباشراً لهذين المفهومين وذلك من جانبين. الجانب الأول هو تغير نمط الانتاج الزراعي واعتماده بصورة كبيرة على الميكنة الزراعية مما دفع بجزء كبير من قوة العمل بالريف إلى البحث عن فرص اقتصادية بديلة بالحضر، أو حتى تغذية امتدادات الحضر بمواد البناء والعمالة التي تحتاج إليها. الجانب الثاني هو علاقة المزارعين بالأراضي الزراعية والمياه (كأهم مصادر الإنتاج الزراعي) وكلاهما مصدران آخذان في النفاذ. فالرقعة الزراعية في تناقص تحت وطأة التحضر نتيجة لعدم قدرة الغالبية العظمى من المواطنين على الحصول على أراضي صالحة للبناء من الدولة مما يدفعهم للبناء على الأراضي الزراعية. أما نصيب مصر في المياه، فهو أيضاً في تناقص مستمر، ناهيك عن الاختلالات الجائرة في توزيع المياه بين مناطق مصر المختلفة، و المشكلات المتعلقة بكميات وجودة المياه المتاحة للمواطنين.
في غياب سياسات للنمو العمراني المستدام والعادل أو سياسات زراعية فاعلة، تقودنا هذه العوامل معاً إلى دائرة جهنمية يتحول معها الريف المصري من منطقة “منتجة للغذاء” إلى منطقة “منتجة للتحضر” من خلال إمداد عملية التحضر الحالية بالموارد المختلفة سواء من أراض أو عمالة أو مواد بناء.
ثالثاً، علاقة المجتمعات المحلية – مثل مجتمع قرية ناهيا – بالدولة. فبالرغم من الجوانب الإيجابية لمبادرات المجتمع المحلي، إلا أن دور هذه المبادرات – ومنذ عقود – آخذ في الامتداد والتزايد إلى درجة أنه يحل محل الدولة في جوانب عديدة هي من صميم اختصاصاتها. فانسحاب الدولة من العديد من مسئولياتها وأدوارها أدى إلى وضع يقوم فيه المواطنون ليس فقط بتدبير السكن الملائم لأنفسهم، ولكن أيضاً بتوفير المرافق مثل المياه والصرف الصحي، والعديد من الخدمات التعليمية والصحية – بل حتى الخدمات الأمنية مثل نقطة الشرطة بالقرية. لا يفترض أن يقوم المجتمع المدني بدور الدولة أو أن يعفيها من مسئولياتها، وإن انتشر هذا الأمر في مناطق العمران غير الرسمي فإن انتشاره – وبصورة أكثر حدة – في مناطق مصر الريفية يزيد من فجوة التنمية القائمة بالفعل بين الحضر والريف والتي يتطلب جسرها موارد هائلة لا يستطيع توفيرها سوى الدولة، ليس فقط لأن الدولة تملك هذه الموارد، ولكن الأهم أن توفير هذه الموارد من قبل الدولة وتوزيعها بعدالة بين المناطق المختلفة هو حق أساسي للمواطنين.
قد يصادفك يوماً وأنت تتصفح المواقع الإلكترونية المختلفة إحدى صفحات “صحافة المواطن” – والتي قد تجدها تخص قرية ناهيا أو غيرها من قرى مصر المختلفة. ستجدها موغلة في المحلية.. تتحدث عن أمور تخص المكان وأهله، وتعكس مناسباتهم الاجتماعية المختلفة، وتفخر بإنجازاتهم البسيطة، وتتحدث عن أعبائهم اليومية التي لا يعلم أغلبنا عنها شيئاً. ستجدها تتحدث عن هموم ريف مصر الغائب، فهو لا يختلف كثيراً عن قرية ناهيا.. المشهورة اسماً والمنسية مكاناً.
روابط ذات صلة
تضامن: مبادرة جمع وتدويرالقمامة بناهيا
أول مجلة إلكترونية لقرية مصرية: اقرأ “ناهيا دوت كوم”
1.الرابط يمثل صورة للموقع على archive.org وليس الموقع الفعلى، والذى يشير رابطه إلى أنه لم يعد يعمل!
2.هذا الرقم يعبر عن أعداد المتابعين وفقاُ لما كانت تشير إليه الصفحة وقت كتابة هذا المقال
3.“الأمن الغذائي في الأساس يعني بتوفير كمية غذاء كافية لإشباع الحاجة الأساسية للسكان، وقد يتسع في تعريفاته الأكثر شمولا فيشير إلى أهمية أن يكون هذا الغذاء صحي وملائم. أما مفهوم “السيادة الغذائية”، فيتميز عن مفهوم الأمن الغذائي بأنه لا يتعامل فقط مع مسألة توفير الكمية الكافية للغذاء، وإنما يوفر رؤية بديلة ومتكاملة لتأمين الاحتياجات الغذائية.وتعتمد تلك الرؤية على مبدأ أن يكون لمنتجي الغذاء المباشرين، من صغار المزارعين والصيادين والرعاة، الكلمة العليا في تحديد منظومة إنتاج الغذاء. وتعتمد أيضا على قوة موقفهم ومدى قدرتهم على مواجهة سيطرة الشركات العالمية الكبرى العاملة في مجال تجارة مستلزمات الانتاج (البذور والسماد)، وتحكم الشركات الكبرى وكبار التجار في مجال التسويق.” (المصدر: ” “السيادة الغذائية”… لماذا؟”، هالة بركات، موقع مدى مصر).
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments