منشية ناصر في أرقام
المحافظة: القاهرة
الحي: منشأة ناصر
المساحة: وفقا للموقع الرسمي لمحافظة القاهرة، فإن مساحة الحي تبلغ 7.934 كم2 مربع، بينما تبلغ مساحة المناطق المأهولة5.180 كم2 مربع.
عدد السكان: يختلف عدد السكان بين الرقم الرسمي و الأرقام الواردة في أغلب الأبحاث. الرقم الرسمي كما تكتبه محافظة القاهرة هو 302،321 نسمة (يوليو 2014)، بينما يشير تقريرالوكالة الالمانية للتعاون الدولي (GIZ( أن عدد سكان المنشية يتراوح ما بين 800 ألف لمليون نسمة (الوكالة الالمانية للتعاون الدولي 2007). ويشير تقرير آخر من جهة رسمية وهو أحد التقارير غير المنشورة للجهاز المركزي للتعمير التابع لوزارة الاسكان أن تعداد السكان “حوالي مليون نسمة”.
حكاية منشية ناصر
أثناء الاحتلال الانجليزي لمصر وخلال فترة الحرب العالمية الثانية، كانت القوانين المنظمة للملكية الزراعية مجحفة للفلاحين، مما اضطر الكثير منهم لبيع أراضيهم والهجرة من الريف للمدينة للبحث عن سوق عمل جديد. أتاحت القاهرة القديمة مأوى رخيصًا للمهاجرين، حيث هاجر أغلب الجيل الأول من أهالي المنشية من قنا وسوهاج خلال فترة الحرب واستقروا في حي الجمالية بقلب القاهرة القديمة، وعملوا على إعادة تدوير الصلب بإستخدام براميل الزيت. وعلى مدار السنوات اللاحقة، طور مجتمع المهاجرين من حرفته وأصبح الحي مقرًا للتجارة الجديدة، وقام البعض الاخر ببناء مستودعات لبيع مواد البناء المستعملة مثل الطوب والخشب. هذا المجتمع الجديد بنى بيوته ومنشآته التجارية باستخدام الصفيح و ذلك نظرًا لتحذير المحافظة لهم من إقامة بيوت دائمة. ولذلك عُرِفت المنطقة باسم “عزبة الصفيح” واشتهرت ببيع مواد البناء الرخيصة.1 في سنوات الحرب العالمية الثانية، ونتيجة لاضطراب خطوط التجارة، برزت الحاجة للاعتماد على المواد المصنوعة محليا، وبالتالي، اجتذبت عزبة الصفيح مهاجرين جدد أتوا ليلحقوا بسوق البناء الجديد في العاصمة (تكسي، et al. 1997).
لسنوات، ظل المجتمع الجديد على حاله، ثم في عام 1960، أعلنت الحكومة عن حاجتها لأرض العزبة لبناء مستشفى ومدرسة ولكن رفض عمدة العزبة قرار الاخلاء، وطلب من الحكومة أن توفر لهم مكانا بديلا للعيش. بعد شهور من المفاوضات، وافقت السلطات على إعطاء تصريحا ضمنيا للمجتمع بالإقامة في أرض الدولة بالمقطم وكانت تعرف بأرض المماليك، وسُميت المنشأة الجديدة باسم منشأة ناصر لأن الرئيس عبد الناصر أعطى تصريحًا شفاهياً للسكان بالإقامة على تلك الأرض.
لم تكن أرض المقطم مهيئة للعيش في ذلك الوقت، حيث كانت أرض جبلية غير ممهدة وتفتقر للبنية التحتية، ولكن بالرغم من ذلك وافق الأهالي على الانتقال. كان السكان يحصلون على الماء من حنفيات المساجد على طريق مدافن قايتباي القريبة. ثم وفرت لهم الحكومة خلال بضعة أشهر ثلاث حنفيات على الشارع الرئيسي للمنشأة. أما الاضاءة فكانت في البداية تعتمد على لمبات الجاز.
لم يكن الأهالي مطمئنين إلى وضعهم القانوني أو الأمني؛ فمن ناحية، لم تُملِّك الحكومة الأرض لهم، و من ناحية أخري، كان المقطم معروفا بايوائه للخارجين عن القانون. هذه المخاوف دفعت بالأهالي إلى التكتل على سفح الجبل و بناء صف من البيوت المتلاصقة على مساحة 100 متر مربع للبيت، ومساحة أكبر قليلًا للمستودعات و الورش. بعث الأهالي لأقاربهم القاطنين بالقاهرة أو بالصعيد يدعونهم للسكنى بينهم في الأرض الجديدة لغرضي الدعم والأمان (تكسي et al. 1997).وبالانتهاء من بناء الصف الأول من المباني على طريق النصر (الاوتوستراد) ، توسعت حركة البناء لأعلى الجبل.
لم يكن البناء سهلًا بحال، نظرًا لعدم استواء الأرض وكان تمهيد الأرض يتم يدويا أو باستخدام الديناميت. كان أهالي المنطقة الواحدة يتشاركون في دفع تكلفة تمهيد الأرض أو بناء سلالم في الجبل. بينما عملية بناء البيت الواحد، فكانت تقتضي أن يعمل صاحب البيت نفسه كمقاول بناء؛ يثقف نفسه عن أسعار مواد البناء وطريقة الحصول عليها وعلى العمالة الجيدة. وأثناء البناء، يتعاون أهل البيت مع العمال في جلب المياه الشحيحة من الحنفيات البعيدة لنقلها لمحل البناء ذاته. كان البناء في أول الامر يتم عن طريق الطوب فقط وتدريجياً تم التحول لبناء هياكل من الحديد المسلح وذلك سمح ببناء وحدات أعلى من القديمة قد تصل لتسع أدوار.
في غياب سلطة الدولة، نظم مجتمع المنشية نفسه وفقًا لميراث أهله الثقافي حيث كان العمدة ومجلس العرب مختصين بتنظيم المكان وحل النزاعات بين أهله دون تدخل من الدولة (لم يتم إنشاء قسم شرطة بالمنشية حتى عام 1990). وكان مجلس العرب مكونًا من أعضاء ممثلين عن المجتمعات المختلفة القادمة من محافظات مختلفة داخل المنشية. قسم العمدة ومجلس العرب الأراضي بين الأهالي وغالبًا كان يتم تجميع السكان الآتين من نفس البلدة مع بعضهم البعض.
وضع المجتمع الجديد قواعده لتنظيم الملكية وكان الحق في الأرض مرتبطًا بالبناء عليها ومع مرور الوقت، حين نفذت مساحة الأرض الفضاء، صارت تنتقل ملكية البيت من ساكن لأخر عن طريق قيام الساكن الجديد بدفع قدر من المال نظير إخلاء الساكن القديم للبيت وتُسجل هذه القيمة في ورقة تنص على امتلاك الشاري للمبنى و ليس لقطعة الأرض.
بمرور الوقت، وبازدياد عدد سكان المنشية، زاد الاحتياج لتدخل مؤسسات الدولة لإمداد المنطقة بالمرافق الأساسية. كان الحصول على الكهرباء أسهل من الحصول على الماء والصرف الصحي، لأن الطبيعة الجبلية للمكان جعلت من الصعب مد مواسير المياه أو شبكة الصرف (تكسي et al. 1997).سنتعرض لاحقا خلال هذا المقال لحالة البنية التحتية بالمنشية. لكن من المهم الآن أن نعرض تطورًا آخرًا بدأ عام 1970 حين نقلت الحكومة مجموعة جديدة من الأهالي إلى المنطقة، كانوا هم نواة حي الزبالين المعروف بالزرايب.
في 1890، هاجر بعض أهالي الواحات إلى القاهرة وأقاموا على أطراف المدينة واشتهروا باسم “الواحية”. كان نشاطهم الأساسي هو جمع المخلفات العضوية وتجفيفها وبيعها كمصدر للوقود للأفران والحمامات العامة. اتسع نشاطهم ليشمل العاصمة كلها، وسيطرت عائلات الواحية على خطوط جمع القمامة بالعاصمة (فهمي و سوتون، 2010).
بمرور الوقت ومع التطور والزيادة السكانية لم يستطع الواحية أن يستمروا بتقديم خدمة جمع القمامة وحدهم، مما دفعهم للبحث عن عمالة جديدة. ووجدوهم في مجموعة الفلاحين الأقباط المهاجرين من حي البداري في أسيوط للقاهرة وكان نشاطهم الأساسي هو تربية الخنازير (نعمة الله 1998). كان الفلاحين يشترون حق جمع القمامة العضوية من الواحية لاطعامها لماشيتهم. أقام الفلاحين المهاجرين في منطقة أبو وافية بشبرا الخيمة لمدة خمس سنوات، كانوا يجمعون خلالها القمامة على العربات الكارو ويعودون بها لمنطقتهم حيث تقوم السيدات بفرزها، وفصل القمامة العضوية عن المخلفات الأخرى. كان المكسب الأساسي يجنيه الزبالين من بيع الخنازير للمنشآت السياحية بالقاهرة لتقديمها طعاما للسائحين، أما المخلفات غير العضوية فكان يتم دفنها أو بيعها (فهمي و سوتون، 2010).تضررت الأحياء المجاورة من مجتمع الزباليين بسبب رائحة القمامة، مما دفع الحكومة لنقلهم المتكرر من مكان لأخر. حتى استقر الزبالين أخيرا أعلى جبل المقطم )الوكالة الالمانية للتعاون الدولي 2009).
كان خطر الإخلاء المفاجئ يمنع الأهالي من الاستثمار في مكانهم الجديد مما أدى بهم الى بناء بيوت من الصفيح والتي أقاموا فيها حتى عام 1975. كان هذا هو عام بناء دير وكنيسة الانبا سمعان. ببناء الكنيسة2، اطمئن أهل المنطقة و انتموا، ثم بدأوا في بناء بيوت دائمة لهم (نعمة الله 1998). ثم كان العنصر الآخر الفارق في استقرار حي الزباليين نسبياً هو إنشاء “جمعية الزبالين” في 1984. أسسها المطران صموئيل -أسقف الخدمات العامة والاجتماعية والمسكونية للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وضمت أعضاءًا من كبار أشهر العائلات العاملة بحرفة جمع القمامة، ممن اعتبروا بمثابة القادة للمجتمع المحلي. وكان هم الجمعية الأساسي هو مجتمعات الزبالين وخاصةً فقرائهم. ونظرًا لتركز الزبالين في منشية ناصر بالمقطم قامت الجمعية بإمداد المنطقة بالخدمات وبالتالي تحولت الجمعية لمؤسسة لتنمية المجتمع عوضًا عن الأعمال الخيرية. كان هذا في سياق برنامج للتطوير البيئي والتنمية لعبت به دورًا أساسيًا شركة جودة البيئة الدولية –Environmental Quality International (EQI) – التي أمدت جمعية الزبالين بالدعم التقني وساعدتهم على المـأسسة ورعاية مجتمعات الزبالين ليس في المنشية فقط ولكن في أنحاء أخرى من القاهرة كذلك (نعمة الله 1998).
كان دور الجمعية محورياً في السنوات اللاحقة لأنها مثلت تحول هؤلاء الزباليين من مجتمع ريفي يعيش على طرف العمران إلى مجتمع حضري له نشاط اقتصادي محدد وتربطه علاقات اقتصادية واجتماعية مع المجتمعات المحيطة به وإن ظل محافظًا على طبيعته المنغلقة نوعًا ما (تكسي et al. 1997). فنجد أنه في ظل تراكم القمامة في حي المنشية بأكمله، توصل الزبالين بوساطة شركة EQI إلى اتفاق مع سكان منشية ناصر على أن يقوم جامعوا القمامة من حي الزبالين من تنظيف حي المنشية نظير اشتراك شهري يدفعه سكان منشية ناصر للجمعية التي أسسها الزبالون لتنظم إدارة المشروع ولجمع الاشتراكات من أهالي المنشية (تكسي et al. 1997). وهي بادرة إدارة محلية ذاتية هامة في ملف من أعقد ملفات الإدارة المحلية في مصر، ملف إدارة المخلفات الصلبة الذي يؤرق الجميع.
أما عن نشأة باقي مناطق منشية ناصر، فنجد أن تتبع حكاية منطقة الدويقة – كبرى مناطق المنشية وأشهرها حاليًا، يقودنا أيضًا لمزيد من القرارات الحكومية. ففي عام 1977، أصدر الرئيس السادات قرارًا بإنشاء مساكن الإيواء المؤقت بمنطقة الدويقة بالمنشية. بُنيت مساكن الايواء لتضم الأسر المتضررة من انهيار منازلها في القاهرة، أو هؤلاء الذين تم نقلهم من مناطق عشوائية أخرى، ليقيموا في تلك المساكن لمدة ستة أشهر فقط لحين نقلهم لمساكن ملائمة دائمة. لم تفي الحكومة بوعدها، والمساكن التي تم إنشاؤها لتستضيف المتضررين بشكل “مؤقت”، تحولت لمساكن دائمة تفتقر لشبكات المياه والصرف الصحي الملائمة لاستدامة معيشة سكانها. تعيش فيها أسر كاملة على مساحات صغيرة جدا. سميت المساكن بمنطقة الدويقة بأسامي مختلفة مثل: مساكن الشرق الأوسط، سعد المصري، الوحايد، الاتنينات و التلاتات. طبقا لوصف أهل المنشية، فإن مساكن الوحايد هي غرف من دور واحد متلاصقة، تتشارك الأسر التي تعيش فيها في دورة المياه. و أما الاتنينات و التلاتات فتم تصميمهم بنفس الشكل إلا أنهم يتكونون من طابقين أو ثلاثة طوابق. كما بنى الأهالي بعض الغرف الصغيرة التي تستند على الجبل لتؤويهم.
امتد عمران الدويقة عبر السنوات وازداد عدد سكانها، فهناك منطقة الرزاز والشهبة بوادي فرعون المنخفض بين مرتفع الدويقة ومرتفع المقطم، و تعاني هذه المناطق من ضعف البنية التحتية. وتعتبر منطقة الرزاز هي أكثر الاماكن ازدحاما في منشية ناصر. تضم الدويقة أيضًا مساكن الحرفيين الحكومية التي بنيت في الثمانينيات وتتكون من عمارات أسفلها ورش تضم طيف واسع من الحرفيين أهمهم ورش صيانة السيارات. وعلى مساحة كبيرة تقبع أرقى مناطق المنشية وهي مساكن سوزان مبارك الحكومية التي وضع حجر الأساس لها عام 1999 واستمر البناء بها طوال العقد اللاحق، وكان مقررا نقل جميع أهالي المناطق الخطرة بالدويقة لهذه المساكن الجديدة نظرا لأن مساكنهم لم تكن آمنة، إلا أن الانهيار الصخري في 2008 قد غير من خطة الحكومة كما سيتبين لاحقا خلال هذا المقال.
كارثة صخرة الدويقة
في تحقيق صادر عن جريدة المصري اليوم في 2007 قبل أشهر من انهيار الصخرة، تظهر حالة السكن في الحي من خلال شهادات الأهالي الموثقة بالتحقيق كما يلي3:
“بدأت الشقوق تزداد في منزلي منذ أن بدأت الحفارات في العمل حتي أنني اضطررت أن أسد تلك الشقوق ببعض الأكياس وقطع القماش حتي لا يدخل من خلالها أي ثعابين أو عقارب ولكنني فشلت”
“استيقظت منذ عدة أيام علي صراخ شديد من ابنتي التي لم يتعد عمرها ٦ شهور وعندما اتجهت ناحيتها فوجئت بوجود عقرب كبير بجانبها واكتشفت أنه لدغها وفي طريقه للرجوع مرة أخري إلي أحضان الجبل أسرعت بها إلي المستشفى وقاموا بالإسعافات اللازمة وأنقذوا حياته “
قبل هذه الواقعة تحديدا في 1993، حدث انهيار صخري في حي الزبالين، قُتِل على اثره 70 شخصا. منذ ذلك الحين، أصدرت الهيئة القومية للاستشعار عن بُعد وعلوم الفضاء مع هيئة الاستطلاعات الجيولوجية خريطة بالأماكن الأكثر خطورة على جبل المقطم. كان موقع سقوط صخرة الدويقة في عام 2008 هو واحدًا من تلك الأماكن.
طبقا للأبحاث، فإن جبل المقطم يتكون من طبقة من الطفلة وطبقة من الأحجار الجيرية. في غياب شبكات الصرف الصحي الرسمية، فإن طبقة الطفلة تمتص الماء، مما يؤدي لانتفاخها وبالتالي الضغط على صخور الحجر الجيري بجبل المقطم، مما أدى لانهيار الصخرة. بعض الخبراء أيضا يشيرون أن أعمال البناء على الجبل قد تسببت في عدم ثباته.
في مارس 2008، صنفت السلطة المحلية الصخور أعلى الجبل كمناطق عالية الخطورة. بعد شهرين، كلفت الحكومة مقاولًا لعمل الاصلاحات اللازمة لتأمين الصخور في مكانها، خلال فترة الفحص، وقعت بعض الصخور وأصابت بعض السكان. هناك تضارب في الروايات حول الاجراءات التي اتخذتها الحكومة لتأمين الأهالي حين زاد الخطر; فمن ناحية صرح مستشار محافظ القاهرة بأن الحكومة طلبت من 60 أسرة تسكن أعلى الصخرة، و من 30 أسرة يسكنون أسفلها أن يخلوا منازلهم، كما عرضت عليهم الاسكان بمدينة النهضة التي تبعد 35 كم عن مكانهم الأصلي. لكن الأهالي رفضوا الاخلاء لبعد المسافة. لكن التصريحات الرسمية بعد انهيار الصخرة لا ترجح أن الحكومة كانت قد عرضت على كل الضحايا إسكانا بديلا قبل وقوع الحادث. على العكس، تشير تصريحات وزير الاسكان أن الأهالي كانوا “على وشك” الانتقال لمساكن سوزان مبارك، لكن القدر لم يمهلهم ذلك. طبقا للمركز المصري لحقوق السكن فإن الأهالي لم يُعرض عليهم الانتقال لمساكن سوزان مبارك. و قبولهم المبدئي للانتقال لمساكن النهضة كان يعني أن يفقدوا حقهم في مساكن سوزان مبارك التي أُنشئت لهم من البداية، و يرى المسئولون في المركز أن الأهالي كانوا لينتقلون لمساكن سوزان مبارك لو كان هذا الاختيار قد طٌرح عليهم من البداية.
قبل الحادث بأيام قليلة، طلبت السلطة من السكان إخلاء بيوتهم لكنها لم توفر لهم سكنا بديلا للانتقال إليه على الرغم من توفر وحدات مشروع سوزان مبارك. وبالتالي، رفض الأهالي ترك بيوتهم. في صباح السادس من سبتمبر 2008، انهارت الصخرة و أسفرت عن مقتل 120 شخص و إصابة آخرين. في نفس الشهر، بدأ النائب العام التحقيق في قضية الصخرة، و بعد ستة سنوات من الحادث تم الحكم على المسئولين الحكوميين المتهمين بسنة مع إيقاف التنفيذ.
بعد انهيار الصخرة، كان الناجيين من الحادث لهم الأولوية في الانتقال لمساكن سوزان مبارك لكن دون إعطائهم أية أوراق رسمية تثبت حيازتهم للمكان الجديد. كان الناجيين يتم وضعهم في البداية في مخيم الهلال الأحمر بالمنطقة. من ناحية، إدعى بعض الناس أنهم من ضحايا الحادث حتى يحصلوا على شقق بالمشروع، و من ناحية أخرى، ثبت فساد بعض المسئولين في رئاسة الحي الذين كانوا يدونون أسامي من خارج المنطقة في قائمة المنكوبين حتى يتحصلوا على شقق بالمشروع، في حين أن بعض المنكوبين الحقيقين لم يتم إعطائهم شققا، و حين رفضوا ترك معسكر الهلال الأحمر، تم تفريقهم بقوة الشرطة.
بعد الحادث مباشرة، كان يتم نقل السكان الذين يعيشون في مناطق الخطورة القصوى لمخيم الايواء بمركز الشباب دون إعطائهم الوقت الكافي لأخذ متعلقاتهم. كان يصاحب تلك العملية حضور لجنة التعداد التي كانت وظيفتها حصر عدد العائلات المنقولة ليتم إعطائهم سكنا في مساكن سوزان مبارك. إلا أن أخطاء اللجنة في حصر المنقولين وعدم وجود معايير واضحة لعمل اللجنة قد تركت الكثير من السكان دون بيوت خاصة هؤلاء اللذين لم يتمكنوا من أن يقدموا دليلا على أنهم من أهل المكان.4
كان نتيجة أن عملية الاخلاء وإعادة التسكين تتم دون معايير واضحة ودون إجراءات تحفظ حق الأهالي بالسكن، ودون إنذارات مكتوبة أو حيازة ملكية أو شفافية في نقل المعلومة من الادارة المحلية للأهالي، ونتيجة لفساد الادارة المحلية ذاتها، أن استغل بعض الأهالي الانفلات الأمني في 2011، وأقاموا بالوحدات الخالية بمشروع سوزان مبارك. طبقا لرواية الأهالي، فإن البلطجية كانوا يسطون على الوحدات الخالية، لذلك ذهب الأهالي لحمايتها، شاعرين بأحقيتهم فيها لأنهم من أهل الدويقة الذين أنشئت تلك الوحدات من البداية خصيصا لهم. في حين أن رواية الحكومة تفيد بأن هذه الوحدات تم الاستيلاء عليها من قبل سماسرة، وهم اللذين باعوا الوحدات للأهالي. في كلتا الحالتين، فوجئ الأهالي في صباح الثالث من يوليو 2011 بقوات الشرطة و الجيش تهاجم البلوكات السكنية لإخلائها بالقوة و إلقاء متعلقات السكان من البلكونات. هؤلاء اللذين تم إخلاء وحداتهم بالقوة، تم إعطائهم سكنا بديلا في مساكن عثمان و هرم سيتي بمدينة السادس من أكتوبر ومدينة بدر. وهو السكن الذي رفضه الكثيرين منهم لبعده عن أماكن عملهم، ولفقر المرافق فيه. تم نقل الكثير من الاسر خارج المنشية ومازال النقل مستمرا بسبب تخوف الحكومة من تكرار حوادث اخرى في المنطقة.
من خلال قصة صخرة الدويقة يتضح أن هناك نقص واضح في تداول المعلومات ما بين الحكومة و الأهالي، فإن المعلومات إما تكون ناقصة و لا تطرح كل البدائل المتاحة في نفس الوقت، أو أنها متأخرة. كما يُظهر تقرير منظمة العفو الدولية فساد بعض الموظفين في رئاسة الحي، و عدم المهنية في عمل لجنة التعداد و التي تسببت في عدم حصول المستحقين على مساكن بديلة لتلك التي انهارت أو للتي تقع في مناطق الخطورة القصوى. إن هذه الأسباب تثير عدة تساؤلات حول مشروعات التنمية و التطوير التي قامت بها الجهات المانحة في المنطقة؛ فإن إسهام تلك المشروعات الأساسي كان في تحسين البنية التحتية في منشية ناصر، لكن، و كما يتضح من قصة صخرة الدويقة، فإن مشروعات التنمية المختلفة لم تساعد في رفع كفاءة الحكومة في التعامل مع الأزمة أو الادارة الجيدة للحي أو في الحد من الفساد. لا يعد هذا تقييما لأداء مشروعات التنمية بالمنطقة، و لكن هذا يشير إلى أن هناك مداخل مختلفة لتطوير المنطقة لا تعتمد فقط على تطوير البنية التحتية -على أهمية هذا الأمر- و تتطلب إصلاحا إداريا و سياسيا بالأساس.
تعتبر احداث انهيار صخرة الدويقة نقطة تحول لسياسة الدولة في تعاملها مع المناطق الغير مخططة، بعد أحداث صخرة الدويقة، أنشئت الحكومة صندوق تطوير العشوائيات، و هي أول هيئة حكومية مختصة بتطوير هذه المناطق. مدى فاعلية الصندوق محل نقاش بين خبراء العمران و لكن لا يمكن لأحد أن ينكر أن إنشاء الصندوق من أوائل الخطوات التي أتخذتها الحكومة في التعامل مع المناطق غير الآمنة.
المكان وأهله
يتميز حي منشية ناصر بموقعه الذي يربطه بالأحياء المختلفة من القاهرة، وبالترابط الاجتماعي بين سكان المنطقة الواحدة داخل المناطق المختلفة من الحي نظرا لارتباط كل منطقة بنفس الأصول، مما يجعل الحي مكانا آمنًا لسكانه إلى حد ما. بقراءة تاريخ حي المنشية يتضح أن النسيج الاجتماعي للحي لا يتألف من مجموعة ذات أصول واحدة؛ على العكس من ذلك، فإن الحي يتألف من مجموعات مختلفة من السكان انتقلت إليه تباعا في ظروف تاريخية مختلفة، تحكم سكانها نظم اجتماعية وعلاقات وتقاليد مختلفة، كما يعملون في مجالات اقتصادية مختلفة وان كان أغلبها يقع في نطاق القطاع غير الرسمي. كما تختلف حالة المنازل و البنية التحتية من منطقة لأخرى و أحيانا داخل نفس المنطقة. وبزيارة الحي والنقاش مع بعض السكان في ورشة عمل نظمتها مبادرة تضامن، بدا هذا الاختلاف واضحًا ما بين عزبة بخيت والدويقة ومنطقة الزرايب، فلم يستطع أهالي منطقة أن يرسموا خريطة للمنطقة الأخرى، وبدا أن منطقة الزرايب مجتمعا قائما بذاته ومنغلقًا عليها ومختلفا عن باقي المناطق الأخرى داخل المنشية.
طبقا لإحصائيات محافظة القاهرة عن النشاط الاقتصادي داخل الحي، فإن 65% من سكان الحي يعملون في الأعمال الحرفية والإدارية، ويعمل 14% في الأعمال ذات الأنشطة المرتبطة بالقمامة،بينما يعمل 21% في الأعمال الحرة.5 هناك العديد من الورش في المنطقة، وبالرجوع لتاريخ بناء المنشية، فإن أغلب المنازل كانت تحتوي على ورش تقام بالدور الأرضي من المنزل. و في حي الزبالين، فإن هناك مكان مخصص داخل المنازل لفرز القمامة.
أما عن مؤسسات الإدارة المحلية الحكومية، فقد كانت المنشية في البداية تتبع ادارياً قسم الجمالية، ثم مع توسع الحي و انتقال الزبالون إليه في 1970 ونزوح السكان من صعيد مصر الى منطقة المعدسة والخزان، تبعت بعض المناطق في المنشية حي الدرب الاحمر بينما تبع شمال المنشية حي الوايلي. وفي عام 1986 بدأت منطقة منشية ناصر بالتشعب. واستقلت رسميًا عن حي الوايلي منذ مايو 1991. فيما اعتبره الكثيرون خطوة جيدة لضخامة المنطقة وعدد سكانها وخصوصية احتياجاتهم التي يصعب دراستها وفهمها وتخصيص الأموال اللازمة لتلبيتها دون انشاء حي إداري خاص بها تخصص له ميزانية مستقلة ويعمل به عدد معقول من الموظفين الحكوميين اللازمين لخدمة الحي وأهله.
تلقت منشية ناصر ككل و حي الزبالين بشكل خاص عددًا من مشروعات التطوير التي نفذتها جهات أجنبية مانحة، كان أبرزها مشروع البنك الدولي في السبعينات و مشروع الوكالة الألمانية للتعاون الدولي GIZ في آخر التسعينات و حتى 2010 – سيتعرض المقال لاحقا لدور هاتين المؤسستين كمثالين لمشروعات الجهات المانحة في مجال التنمية العمرانية في المناطق اللارسمية مثل منشية ناصر. ويعمل داخل منشية ناصر ما يقرب من 102 جمعية ومؤسسة تنموية، أغلبهم بالنشاط الخيري، بينما يعمل عدد قليل (15-20) من الجمعيات في الأنشطة التنموية، تختص تلك الجمعيات بعمل بعض المشروعات الصغيرة وتوفير فرص عمل وبعضهم بترميم المساكن وتلوينها ويتبنى بعضهم مشاكل المرأة والشباب. تنشأ الجمعيات بين مجموعات تنتمي لنفس الأصول الجغرافية (أسيوط، سوهاج، الأقصر، الخ) بهدف خدمة أبناء هذه الأماكن. على سبيل المثال، يوجد في منطقة الزرايب حوالي 5 جمعيات بينهم اثنين يعملون على التنمية وتعليم الاطفال. وتعمل مدرسة اعادة التدوير على محو أمية الاطفال المتسربين من التعليم، وتدريبهم على استخدام الكومبيوتر. وتُطبِق منهج المونتيسوري احياناً في تعليم الصغار. وتقوم المدرسة بربط التعليم بزيادة الدخل؛ فيتعلم الاطفال أهمية عملية الفرز وإعادة التدوير لمختلف المفروزات. كما تقوم المدرسة ايضاً بتنمية المهارات الفنية لدى الأطفال والشباب من خلال المشاركة في تجارب ابداعية كالمسرح، نذكر من هذه التجارب قيام الأطفال بعمل مسرحية عن قصة الزبال المصري وانتقاله من مكان الي آخر.
تظهر قوة المجتمع المدني في المنشية ليس فقط من خلال الجمعيات، ولكن من خلال مجموعات السكان التي تجمعها مصالح مشتركة. نرى تفاوض الزبالين مع الجهات الحكومية المختلفة في الفترة الأخيرة لتقنين أوضاعهم وتنمية عملهم في إعادة تدوير المخلفات الصلبة. نرى أيضًا كيف نجح شباب منشية ناصر في الضغط على السلطات والجهات المسؤولة لتوفير ارض لإنشاء ملعب رياضي وتم إنشاء الملعب و يتم ادارته حاليًا بالمجهودات الذاتية.
ما تتميز به منشية ناصر وفرص التطوير
إن المميز حقًا في منشية ناصر أكثر من غيرها من المناطق هو انتشار ونمو الأنشطة الحرفية والصناعات الصغيرة بها، وتنظيم فئات المجتمع بها حول مصالحهم وحرفهم.لا تختلف قصة تطور الحرف في المنطقة عن تطور العمران نفسه، حيث تلعب القرارات الحكومية دورًا كبيرًا بها. فغالبا ما كانت الفئات التي يتم تهجيرها إلى منشية ناصر تنقل مع حرفها أو بسببها. رأينا كيف بدأت قصة المنشية بنقل الحكومة لأهالي عزبة الصفيح بالجمالية إلى هذا المكان النائي على الجبل في الستينيات، وانتقل معهم النشاط الاقتصادي الذي بدؤوه في عزبة الصفيح إلى ورش المنشية واستمرت العائلات في إعادة تدوير الصلب. ومع الوقت، حين زال خطر الاخلاء عن المنطقة، انتقل عمال أخرون من الورش القريبة في القاهرة القديمة واتخذوا من المنشية مكانا لورشهم الجديدة التي كانت تنتج السجاد والأحذية ومشغولات يدوية أخرى.
فئة أخرى من ذوي الحرف والصناعات تم نقلهم إلى المنشية لممارسة ما اعتبر نشاطًا ملوثًا بالبيئة لا يصلح للوجود بداخل القاهرة، هم صناع منتجات الألومنيوم. فبعد منتصف السبعينات، ومع ارتفاع أسعار النحاس عالميًا، أصبح الألومنيوم البديل للنحاس وارتفع الطلب على أوانيه التي كانت تشكل مكونًا أساسيًا في جهاز العرائس في ذلك الوقت، مما أدى لازدهار ورش الألومنيوم بالقاهرة القديمة. ومع توسع النشاط قررت الحكومة نقلهم خارج مكانهم الأساسي نظرا للتلوث الناتج عن صناعتهم وبدت المنشية مكانا مناسبا لنقل الورش إليه. انتقلت سبع ورش للطرف الجنوبي من المنشية، و معها، اجتذبت عمالة جديدة أضيفت لسوق العمل بالحي (هوپكنز و إبراهيم، ١٩٩٧). واليوم يوجد بالمنشية تجمع كبير لورش الألومنيوم التي وسعت أنشطتها وأصبحت تعمل في قطاعات الانشاءات والأثاث وغيرها.
أما بالنسبة لمجتمع الزبالين الذي نقل مع نشاطه وبسببه أيضًا، فقد نجحوا عبر السنين في إقامة واحدًا من أفضل النظم على مستوى العالم في إعادة تدوير المواد الصلبة باستخدام أدوات جمع القمامة التقليدية، حيث يقومون بإعادة تدوير كل شيء تقريبًا لتحقيق أقصى نفع، ولا تقف أمامهم مادة أو منتج إلا وقاموا بتجريب وسيلة لإعادة تدويرها وصناعة منتج جديد أحيانًا باستخدام ميكنة بسيطة مصنعة محليًا. تبلغ نسبة إعادة التدوير داخل الحي 85% من قمامة القاهرة (فهمي و سوتون، ٢٠١٠) وهي نسبة مرتفعة جدًا مقارنة بدول العالم، حيث لا تقترب منها حتى أعلى معدلات إعادة التدوير في العالم الموجودة في النمسا (63%) وألمانيا (62%) -تعتمد هذه المؤشرات بالطبع على البيانات الرسمية وتحتسب إعادة التدوير التي تتم عبر مؤسسات معترف بها، وهذا بخلاف الدول النامية التي تتم بها هذه الأنشطة بشكل لارسمي غير معترف به ولا يتم رصده ودراسته الا بمجهودات فردية للباحثين المهتمين كحالة زبالين منشية ناصر.
اللافت أن الحكومة لم ترى قط هذه الحرف والصناعات كفرصة للتنمية والنمو، ولم تسعى لوضع سياسات وقوانين تدعم أصحابها وتطور ظروف عملهم ومنتجاتهم. بل على العكس غالبًا ما لا ترى الحكومة في هذه الصناعات اللارسمية الصغيرة سوى مشاكلها، وهو ما أدى بالأساس لنقلها في هذا المكان التي اعتبرته الحكومة بمثابة باحة خلفية لغير المرغوبين تضمن اختفائهم عن الصورة الرسمية للمدينة، وتتجدد المشكلة حين يظهرون مجددًا في الصورة ويسببون الازعاج لإدارتها وسكانها الآخرين. كمثال حالة الزبالين، نجد على الرغم من نجاحهم في التأسيس لصناعات إعادة تدوير ناجحة، إلا أن الحكومة تتبنى سياسات من شأنها أن تضر بهم وبأنشطتهم على المدى القصير ولا تدعمهم على المدى البعيد لتخطي المعوقات والتطور. في 1990، كان جامعي القمامة يعتمدون على عربات الكارو ولكن أمرت الهيئة العامة لنظافة وتجميل القاهرة باستبدال عربات الكارو الي شاحنات، وقامت بالتعاقد مع بعض الشركات الخاصة لجمع القمامة من الأماكن السكنية، مما أضر بالزبالين القدامى اللذين كان عليهم تدبر أمرهم في الوضع الجديد الذي اقتضى أن يقوموا بجمع القمامة من بعض الوحدات السكنية و هم غير متأكدين إن كان أصحاب تلك الوحدات سيدفعون لهم مقابل عملهم أم لا. كما أنهم في ذلك الوقت لم يكونوا يعرفوا كيفية قيادة السيارات ولا يملكوا المال اللازم لشراء سيارات لنقل القمامة وجمعها (اسكندر، 2010) وبالتالي واجهوا صعوبات شديدة حتى استطاعوا مواكبة التطور دون تقديم أي دعم لهم من قبل الأجهزة الحكومية المختصة والتي يفترض بها إعانة مثل هذه الفئات من أصحاب الحرف في حالة تغيرات تؤثر بشكل حاد في حرفتهم -وإن كانت ضرورية أحيانًا.
في 2003، وقعت الحكومة عقدا مع ثلاث شركات أوربية لبيع قمامة القاهرة لهم بزعم أن الطرق التقليدية للزباليين غير صحية، وهو ما يمكن حله بالتوجه لأصحاب المصلحة الأساسيين من المجتمع المصري وتطوير الوسائل التي يعتمدون عليها حفاظًا على صحتهم، لا بقطع الطريق عليهم وحرمانهم من نشاطهم الاقتصادي.كانت خدمة الشركات الأوربية لا تقارن بخدمة الزباليين إذ أن العربات التي استخدمتها الشركات الأوربية لجمع القمامة كانت كبيرة و لم تستطع جمع القمامة من الشوارع الضيقة، كما أن العقد بين الشركات الأوربية والحكومة المصرية نص على إعادة تدوير 20% فقط من المخلفات، لكنه لم ينص على نوعية المواد المطلوب إعادة تدويرها ولا كيفية عمل ذلك، كما لم يكن هناك رقابة من الحكومة للتأكد من أن عملية إعادة التدوير تتم بالفعل. وفي النهاية فشلت التجربة وانتهى الأمر كما بدأ دون توضيح أي تفاصيل للمواطن عن هذه الصفقة وما ترتب عليها من أعباء مادية وإدارية وإجتماعية.
في 2009، مع تصاعد الخوف من انفلونزا الخنازير، أعدمت الحكومة 300 ألف خنزير، أدى ذلك الي الاضرار بحياة 70 ألف عائلة من حي الزباليين، حيث انهم كانوا يعتمدون علي تربية الخنازير لأكل المخلفات العضوية، على الرغم من أن المرض لم يكن لينتقل من الخنزير للإنسان، إلا أن الحكومة حينها أعلنت عن تخوفها من سلالة مختلطة من انفلونزا الخنازير مع انفلونزا الطيور. لكن هذا السبب تغير مع الوقت، وأعلنت الحكومة أنها اتخذت هذا القرار لتنظيف الحي المزدحم (فهمي و سوتون، ٢٠١٠).
وكأن الزبالون أو بقية مجتمع منشية ناصر “العشوائي” سيختفون من الوجود فجأة باتباع سياسات تتجاهل وجودهم وتبحث عن بديل لهم، أو أن مجتمعات كاملة تضم الآلاف ستجد فجأة وببساطة نشاطًا اقتصاديًا بديلًا عما عرفوه وتوارثوه من سنين. مرةً تلو الأخرى تفرض الحكومة قرارات فوقية لا تنظر للمواطن المصري المعني بقرارها والمتأثر به ولكن تنظر فقط لتصوراتها عما يجب أن يكون وتترك الواقع لأصحابه يعيشون فيه ويحلون مشاكله دون سند. وبالتالي فسياساتها التي اتخذت تباعا لم تكن نابعة من رؤية هذه المجتمعات الصغيرة كمجتمعات منتجة ينبغي حل مشكلاتها، ولكن من رؤية تعتبر وجودها ذاته مشكلة.
على العكس ترى المجتمعات نشطاها وشبكات علاقاتها بمثابة فرصة للتطوير والتنمية. خلال اللقاء المجتمعي الذي قام به فريق تضامن، اقترح بعض المشاركون تحويل الاقتصاد اللارسمي في منطقة منشية ناصر إلى اقتصاد رسمي لإستفادة الدولة من منتجات و مشروعات المنطقة بالإضافة الي تقنين المهن واستفادة العاملين بها من امتيازات العمل الرسمي. ورصدنا بالفعل محاولات مجموعات من الزبالين القاطنين في منطقة الزرايب لكسب اعتراف الحكومة والمسؤولين بعملهم غير الرسمي وأن يكونوا شركاء فاعلين في عملية جمع القمامة على مستوى القاهرة بدلا من تصعيب وصولهم للمخلفات والاصرار على التحيز لمنافسين أجانب. يطالبون كذلك بان يكونوا فاعلين أساسيين في تنمية صناعات اعادة التدوير وتوسيع نطاقات عملها، لاسيما أن العديد من شركاتهم تملك بالفعل سجل تجاري وبطاقة ضريبية. يطرح الزبالون اقتراحات عملية تبدو معقولة يمكن بسهولة لأي متخذ قرار دراستها ومناقشتها والتفاوض بشأنها كخطوة بداية لا لحل مشاكل مجتمع الزبالين فحسب بل لحل مشكلة إدارة المخلفات في القاهرة ككل. تضم الاقتراحات تقسيم خطة جمع القمامة من القاهرة إلى مناطق صغيرة، و أن تتولى شركات جمع القمامة في حي الزبالين مسؤولية جمع القمامة من الأحياء الصغيرة، و أن يراقب تلك العملية أهالي الأحياء المختلفة لأنهم أصحاب المصلحة الأولى في نظافة حيهم. و التعاقد مع الشركات المصرية المتخصصة في جمع واعادة تدوير المخلفات طبقاً الى كراسات الشروط ويتم توقيع غرامات على المخالفين، ومراقبة عملية جمع القمامة عن طريق عمل لجنة شعبية في كل حي. وضمان تمليك الزبال المفروزات او تعويضه بمبلغ من المال مساويا لعملية الجمع والفرز. عدم نقل مجتمع الزرايب الي أماكن أخرى بل العمل على أن تكون هذه المنطقة محطة وسيطة كبيرة بها ورش عمل لاعادة التدوير. بالإضافة الى ان تقوم الحكومة بعمل مقلب كبير في مكان آخر للتخلص من المفروزات الغير مرغوب فيها والتي تسبب الأمراض لسكان الزرايب. كما اقترح سكان الزرايب أيضًا الإهتمام بالمناطق السياحية الهامة في المنطقة كدير الأنبا سمعان و عمل أكشاك او محلات بالقرب منها، لتحسين الوضع الاقتصادي للسكان كانت ايضا من مقترحات الاهالي، حيث تقوم تلك الأكشاك ببيع منتجات المنشية وذلك بدوره سيؤدي الي الحد من نسبة البطالة خاصةً للشباب وسيجعلهم يفتخرون بمنطقتهم. اضاف المشاركون ايضاً انه يجب عمل كوبري او طريق مباشر من عند مدخل المقطم ليمر في الاراضي الخالية خلف الجبل ليصل مباشرةً الي دير “الانبا سمعان الرزاز” لتسهيل وصول السياح والزوار للدير. ومن هنا نرى كيف تكمن الإجابة على الكثير من أسئلة التنمية في السماع لتصورات الأهالي عن أنفسهم ودورهم في المجتمع الأكبر وإشراكهم في صنع القرار للوصول إلى قرارات أنضج من تلك المقترحة من الحكومة وحدها بشكل فوقي أو من المجتمع الأصغر وحده بشكل قد يغفل بعض جوانب الصورة العامة.
ما تعاني منه منشية ناصر
يواجه سكان المنطقة عددا من المشاكل لا يمكن تجاهلها، على رأسها التهميش الاقتصادي والاجتماعي لسكان المنطقة، وكذلك التكدس والكثافة السكانية العالية، قلة المداخل الرئيسية للمنطقة وصعوبة الحراك داخلها لضيق الشوارع أو انشائها على مستويات تفصل بينها سلالم تصعب التنقل والحراك على العديدي من الفئات كالعجائز والأطفال وذوي الإعاقات الحركية. ومن أهم المشكلات كذلك عدم كفاية الخدمات رغم توافرها بدرجة أكبر من العديد من المناطق اللارسمية الأخرى، ناهيك عن ضعف كفائتها وقدرتها على خدمة هذا العدد الكبير من السكان.
يشتكي أهل المنشية بشكل عام من ضعف الخدمة الصحية على الرغم من وجود مراكز طبية داخل الحي، و بناء مستشفى الشيخ زايد حديثًا، إلا أن الأهالي أوضحوا أن المستشفى و المراكز الصحية غير جاهزة لتقديم خدمة صحية حقيقية لهم، و أوضحوا أيضًا وجود مبنى مركز صحي كبير في منطقة المساكن ولكنه لا يعمل حالياً. و في حي الزبالين، أكد الأهالي في منطقة الزبالين أن المراكز الطبية داخل نطاق الحي غير مؤهلة للتعامل مع إصاباتهم أثناء فرز المخلفات. نفس الأمر تكرر مع المدارس، إذ على الرغم من توافر عدد كبير من مجمعات المدارس داخل المنشية، إلا أن الخدمة التعليمية،وفقًا لرأي الأهالي، هي خدمة متدنية (كما هو الحال في احياء اخري). كما اشتكى أهالي الزبالين من عدم وجود مدرسة ثانوية للبنات داخل المنطقة مما يضطر بناتهم لترك التعليم بنهاية المرحلة الاعدادية. يعاني أيضًا أهالي الحي من نقص خدمات الحماية المدنية (شرطة، اطفاء، اسعاف)، لذلك، فإنه عند حدوث أي حادث، لا يوجد أي طريقة سريعة لإنقاذ الأهالي، خاصة مع سوء حالة الطرق و ضيقها التي تعيق وصول الاسعافات اللازمة لهم. ونظرًا لانتشار الورش داخل حي المنشية ككل، وفرز القمامة في مكان خاص داخل البيوت بالزرايب/الزبالين، و مع غياب المساحات الخضراء تمامًا داخل الحي، فإن حي المنشية ككل به نسبة عالية من التلوث البيئي بصوره المختلفة.
وبالنسبة لحالة البنية التحتية، و طبقا للمسح الميداني الذي قامت به الوكالة الألمانية في 2005، كانت المياه تصل بنسبة تتراوح بين 85% إلى 99% داخل سبع مناطق من المنشية، في حين تقل النسبة لتصل إلى 23% في المنطقة الثامنة و 1% في المنطقة التاسعة. خلال اللقاء المجتمعي، اوضح الاهالي أن الشوارع الجانبية بمنطقة الرزاز لم تزل تشتري الماء من العربات التي تقدم تلك الخدمة للأهالي نظرا لأن الحكومة توفر الماء للشارع الرئيسي من الرزاز فقط دون الشوارع الجانبية. بالنسبة للصرف الصحي، وصلت نسبة جودة الخدمة في ثلاثة مناطق لـ 98% طبقاً للمسح الميداني، و في خمسة أخرى لـ 70%. بينما في المنطقة التاسعة لا تصل شبكات الصرف إلا لـ 5% من البيوت.
مما لا يمكن تجاهله كذلك أن هناك فئة من السكان مازالت تعاني من وقوع منازلها في حيز خطر، وأن عملية نقل الأهالي لمساكن آمنة مازالت تحتاج للكثير من التطوير؛ على سبيل المثال، ينبغي إستشارة الأهالي في مكان السكن و مدى ملائمته لهم، و تقنين وضع الأهالي في الشقق التي ينتقلون إليها لتعزيز احساسهم بالأمان ولأن هذا من شأنه أن يساهم في الحد من انتشار رجوعهم الي المناطق غير الرسمية، حيث رصدنا في أكثر من حالة أن الأسر تعود إلى مناطق سكنها الأولى داخل المنشية بعد فترة نتيجة صعوبة الأوضاع في الأماكن التي ينقلون لها، وإما أن يقوموا باستئجار مسكن أو بنائه، وهو ما يعني تكلفة مضاعفة دفعت من أجل أن نصل في النهاية لنمو الاسكان اللارسمي وليس الحد منه.
وأخيرًا، استفاض أهالي أكثر من منطقة داخل منشية ناصر في لقائين مجتمعيين أقامتهم تضامن لسماع تصورات السكان، في شرح عواقب الوصم الاجتماعي لهم ولمنطقتهم، والصور النمطية التي تروج عنهم وعن سلوكياتهم وأنشطتهم. ما بدا متكررًا في عدة مناطق وأحياء لا رسمية حول القاهرة الكبرى، هو اقتناع السكان أن أن الموظفين الحكوميين اللذين يتم عقابهم لتقصير ما في وظيفتهم، يتم نقلهم للعمل في المنشية. وأن الحكومة تتعامل مع المنطقة كمكان لتقضية عقوبة و ليس كحي سكني يملك المواطنون فيه حقوقا في الخدمات التعليمية والصحية والإدارية المختلفة. وكما سمعنا من أهالي عزبة الهجانة يفكر الأهالي في مقاومة هذه الوصمة باقتراح تغيير اسم حي الزبالين على سبيل المثال لـزهراء المقطم أو جبل المقطم، لكن هذا لم يحدث حتى الآن، ولا يضمن بالطبع أن يتغير أي شيء على الإطلاق.
طرفي النقيض: منشية ناصر وأب تاون كايرو
في 2006، بدأت إعمار مصر في انشاء مدينة أب تاون كايرو، و هي مجتمع مسور أعلى المقطم و يطل على منشية ناصر و منطقة الدويقة. كما يظهر من اسمها وصورتها التي يتم الترويج لها، فإن المدينة خُصصت للأقلية الغنية بالعاصمة، و هي تتيح لهم مستوى أعلى من الرفاهية متمثلا على سبيل المثال في ملعب الجولف الكبير الذي يحيط المنطقة السكنية. من المعروف أن ملاعب الجولف تستهلك حصة عالية من المياه، التي تزداد تكلفتها مع إرتفاع جبل المقطم و ما يترتب على ذلك من صعوبة في ضخ الماء. يتساءل السكان كيف سيتم توفير كل هذا القدر من المياه إذا كان سكان وادي فرعون الذي تطل عليه أب تاون كايرو يعانون من الفقر المائي ولا يتحصلون سوى على قدر محدود من المياه يشترونه بشكل غير رسمي لانهم غير متصلون بشبكة مياه عامة.
بمشاهدة إعلان أب تاون كايرو و الصور المختلفة التي يستخدمها الموقع الالكتروني للمدينة، فإننا نلاحظ أن منشية ناصر غير ظاهرة في الصورة التي توضح إطلالة المدينة (يظهر فقط أضواء المدينة بالأسفل). يعزي بعض الأهالي في الرزاز والشهبة ووادي فرعون قرارات هدم مساكنهم ونقلهم إلى مساكن السادس من أكتوبر إلى رغبة الحكومة في محو صورتهم لتجميل إطلالة أب تاون كايرو. لا يملكون سوى الربط بين ما يحدث لهم ووعود الإعلانات التلفيزيونية التي تروج للمجتمع المسور الراقي بأنه قريب من القاهرة وبعيد عن مشاكلها. وخاصةً أن بعضهم يرى امكانية أن يتم معالجة الجبل وتمهيده وإزالة الخطورة ثم إعادة بناء مساكنهم في أماكنها مرة أخرى مع توافر مساحة أرض شاسعة للخدمات في حين وجد التمويل والرغبة في التطوير، وأبدوا استعدادهم في المساهمة المادية لبناء مساكنهم على الأقل، ولا ينكرون على الدولة التربح من بيع جزء من الأرض لإعمار مصر مقابل مساهمتهم في التطوير. في النهاية يظل الأمر مرهونًا بقرارات الحكومة وبتصورها لدورها في إدارة الأراضي ومشاريع الإسكان لجميع فئات المجتمع من غنيهم لفقيرهم، حيث لا توجد بعد في القوانين المصرية آلية مستدامة تتيح للمواطنين أو للجمعيات التنموية العاملة معهم التدخل والمشاركة في صنع القرارات الخاصة بمدنهم.
مشروعات الجهات المانحة في منشية ناصر
بتأمل تاريخ نشأة المنشية، نجد أن الفقر والتدهور العمراني كانا نتيجة مباشرة لسوء إدارة العمران وتحيز سلطة الدولة لفئات معينة من المجتمع دون الأخرى، وتقاعصها عن أداء أدوارها في توفير شروط التنمية والتخطيط والإدارة. لم يحظ أهل المنشية بصفة قانونية تضمن حيازة آمنة للأرض التي يعيشون عليها، وغالبًا ما يشار إليهم بصفتهم متعدين على أرض الدولة رغم أن الحكومة هي من اتخذت قرارات نقل وتوطين أغلب المجموعات التي شكلت المنشية إلى هناك في مناسبات مختلفة. تلك الصفة أخرت من مد شبكات المياه و الصرف الصحى نحو عشرين عامًا من تاريخ بناء الحي. وحين عوملت هذه المجموعات كضيف غير مرغوب به في المدينة وطردت لسفح الجبل لتنحت بيئتها العمرانية فيه –حرفيًا- لم تقم الدولة بشكل مسبق أو موازي بالتخطيط لهذا النمو بتوفير الخدمات ومتابعة عمليات بيع وشراء الأراضي وضمان توفر أرض بأسعار في متناول يد الراغبين في السكن في هذه المجتمع العمراني الجديد. بل ظلت تتعامل مع النتائج، فتنتظر إلا أن يبني الناس بالفعل ثم تتدخل في محاولات متواضعة غير فعالة في الغالب لتحسين الأوضاع، وبعد كل مشروع تطوير يبدي اعترافا وان كان منقوصًا بالمنطقة اللارسمية تصبح مكانا جاذبا أكثر للسكان ويستمر البناء اللارسمي وتستمر الدولة والجهات التنموية الدولية في محاولات تحسين الأوضاع، دون رؤية أبعد للمستقبل تضع في حسبانها الظروف الاقتصادية والاجتماعية والامتدادات الطبيعية للعمران، واحتياجات الفقراء في مسكن ومدينة ملائمة.
في السبعينيات، و مع تبني الدولة لسياسة الانفتاح، زادت المنح والمساعدات الأجنبية لمصر والتي كان من ضمنها منحة البنك الدولي لتطوير المنشية والتي ساعدت على اعتراف الرئيس السادات بالمنطقة. كانت المنحة تهدف الي تطوير منطقة الزرايب وعرب المحمدي. بدأت المنحة بمشروع التطوير العمراني و الذي نفذته بالشراكة مع الحكومة. كان ذلك عام 1977، و كان المشروع يهدف إلى تطوير المجتمعات الفقيرة القائمة بالفعل بدلا من إنشاء مدن جديدة حول القاهرة لاستيعاب الزيادة السكانية. كانت خطة المشروع في البداية هي بيع أرض الدولة للسكان بالمنشية نظير إمدادهم بالخدمات الأساسية (هوپكنز و إبراهيم، ١٩٩٧). لم يتم تمليك الأرض للأهالي لتخوف الحكومة من إضفاء طابع شرعي على فعل غير قانوني بالأساس. و بالتالي، لم ينجح المشروع في تنظيم ملكية الأراضي لكنه على مدار عشر سنوات، مد شبكة الصرف الصحي للمنشية. لم تصل الشبكة لداخل البيوت، وتحمل بعض الأهالي عبء ربط بيوتهم بشبكة الصرف الرئيسية بالمنطقة. كانت التوصيلات رديئة بعض الشيء مما أدى لتسريب جزء من المخلفات على المجتمعات القاطنة أسفل المقطم، مما سبب للأهالي وخاصة الأطفال منهم الكثير من الأمراض (هوپكنز و إبراهيم، ١٩٩٧). على الناحية الأخرى، نجح المشروع في إنشاء محطة وخزان مياه في المنطقة الأكثر ارتفاعاً في الحي، وتوصيل المياه لما يقرب من نصف عدد السكان. كما طور الأهالي أنفسهم نظامًا داخليًا لتوصيل المياه، حيث تحمل العربات الصغيرة براميل المياه للبيوت بأسعار مناسبة (هوپكنز و إبراهيم، ١٩٩٧).
من ناحية، أدت سياسة الانفتاح إلى تدفق المعونات الأجنبية إلى مصر، لكن من ناحية أخرى، عمق الانفتاح من الهوة الطبقية بين الفقراء و الأغنياء. مرة أخرى، اهتمت الحكومة بدعم الاستثمار في الوقت الذي تقلص فيه دعم الحكومة للسلع والخدمات الأساسية ومن ضمنها السكن، حيث ارتفعت أسعار الأراضي بحيث لم يعد للفقراء مكانًا يذكر في المدن المخططة، وأصبحت سوق الاسكان غير الرسمي غير المخطط هي المنفذ، مما أدى إلى نمو المناطق العشوائية بشكل واسع خلال العقود اللاحقة ومن أهمها منشية ناصر، كبرى الأحياء العشوائية في القاهرة.
في عام 1998 اتخذت الحكومة إجرائين مهمين تجاه منشية ناصر. الإجراء الأول كان إنشاء مشروع إسكان متكامل بمنطقة الدويقة موّلت المرحلة الأولى منه من الدولة واستكملت باقي المراحل بتمويل من منحة أبو ظبي للتنمية بمبلغ 180 مليون دولار، بحيث يتم نقل سكان المناطق الخطرة بالدويقة إلى هذه المساكن وهدم مساكنهم الأصلية. كانت وزارة الاسكان و المرافق والمجتمعات العمرانية هي المنوطة ببناء المساكن، بينما تتولى رئاسة حي المنشية توزيعها على المستفيدين. والاجراء الثاني كان دعوة الحكومة للوكالة الألمانية للدعم الفني GIZ لتطوير باقي مناطق المنشية مرحليًا، وشملت المرحلة الأولى التحسين وإزالة المخلفات وفتح محاور مرورية متعددة وإنشاء 3 كباري مشاه علوية علي الأتوستراد لتأمين عبور المشاه وامداد المنطقة بشبكات المرافق اللازمة للمياه والصرف الصحي. وذلك بهدف الحد من الفقر و تحسين الظروف المعيشية لسكان المنشية (بيفيرو، 2009).
في المشروع الأول، تشاركت أجهزة الدولة جميعها لإنتاج هذا المشروع العملاق الذي سمي باسم السيدة الأولى وقتها “سوزان مبارك”، فقامت بالدراسات الاجتماعية والبيئية وزارة الشئون الاجتماعية ومحافظة القاهرة، وبالدراسات الجيولوجية وزارة الإسكان وهيئة الاستشعار عن بعد، وقامت بالتخطيط الابتدائي للمنطقة الهيئة العامة للتخطيط العمرانى، وقام بأبحاث التربة والتصميمات والمخططات العامة والإشراف علي التنفيذ مركز بحوث البناء وعدد من الجامعات المصرية والمكاتب الاستشارية المصرية. وتم بناء 9760 وحدة سكنية تستوعب 50 ألف نسمة، شاملة الخدمات والمرافق. وشمل المشروع انشاء مركز طبى و3 مساجد سعة 300 مصلى ومسجد جامع كبير يستضيف 800 مصلى ودار مناسبات، ووحدتان صحيتان و3 دور حضانة، ومكتب بريد ومبنى سجل مدنى والرقم القومى، ونقطة شرطة ووحدة تراخيص، وخزانات مياه كبرى ، ومركز حرفى يضم 78 ورشة، و234 محل تجاري. كما تم انشاء مدرسة للتعليم الأساسى ومدرسة ثانوى صناعي. (وزارة الإسكان، غير معروف)
لا تتوفر الميزانية كل يوم لمثل هذه المشاريع الضخمة بالطبع، ورغم نجاح المشروع في توفير بيئة جيدة، إلا أن طاقته الاستيعابية تعد محدودة للغاية بالنسبة للأعداد التي تقدر بمئات الآلاف –مليون نسمة في بعض التقديرات- التي تسكن المنشية. وهنا يأتي السؤال الهام حول المعايير التخطيطية واشتراطات البناء ومدى فاعليتها في حالة بناء المساكن للفقراء والاستفادة القصوى من الموارد ، فيرى الكثيرون أن تكثيف البناء في هذه المنطقة بقدر معقول كان ليخدم عدد أكبر من السكان، كما أن الدولة كان بامكانها مشاركة بعض الأهالي في البناء ووضع الأموال في تمهيد المناطق الخطر وتوفير الخدمات لبقية سكان المنشية عوضًا عن ذلك.
أما عن مشروع التخطيط الشامل للمنطقة بأكملها، الذي بدأ في 2008 كذلك، فقد قسمت الوكالة الالمانية للتعاون الدولي منشية ناصر لتسع مناطق تخطيطية ، وهي: MN1 و تشير لعزبة بخيت، MN2 و تشير للمساكن، MN3 و تشير لأسفل الرزاز، MN4 و تشير للجامع و المعهد الثقافي، MN5 و تشير لشياخة المعدسة، MN6 و تشير للخزان، MN7 و تشير للزرايب، MN8 و تشير لأعلى الرزاز، وأخيرًا MN9 و تشير لوادي فرعون. وذلك حتى يمكنها تحديد أي المناطق ستدخل في حيز مشروع التطوير و في أي مرحلة. كان المدخل الذي تبنته الوكالة الألمانية هو منهج التنمية بالمشاركة والذي يهدف إلى تحسين مستوى الخدمات العامة المقدمة من الجهات الحكومية والمجتمع المدني لسكان المنطقة. كانت الخطة أن يعمل البرنامج على دعم الحكومة والإدارة المحلية لتطوير السياسات ورفع الكفاءة الادارية للموظفين بالشكل الذي يخدم احتياجات سكان المنطقة، والتشبيك بينهم وبين الحكومة والمجتمع الأهلي والقطاع الخاص. وبالتالي، طورت الوكالة الألمانية شراكة مع محافظة القاهرة ورئاسة حي المنشية (الشريك التنفيذي). بدأ عمل المشروع في منطقة عزبة بخيت ثم امتد لاحقا لباقي المناطق. تضمن المشروع شقين: الشق الأول هو تطوير البنية التحتية للحي والذي شمل تحسين شبكات المياه والصرف الصحي وتوسيع الطرق. كانت الخطة المبدئية أن يتم تمليك الأرض للأهالي ثم البدء في تطوير البنية التحتية للمنطقة. كان تطوير البنية التحتية سيعتمد في جزء منه على عائد بيع الأرض للسكان (28%)، والجزء الأخر ممولًا من الحكومة (19%) والجزء الأكبر من بنك التعمير الألماني (53%) (بيفيرو، 2009). أما الشق الآخر والمقدم من الوكالة الألمانية ذاتها فكان مختصًا بتقديم الدعم الفني للإدارة المحلية، وتحفيز ودعم مشاركة المجتمع في كل خطوات التخطيط والتنفيذ لأنشطة المشروع. سمي المشروع “التنمية العمرانية بالمشاركة فى منشية ناصر”.
من الهام أن نركز على التجربة الخاصة بتقنين ملكيات الأراضي في هذا المشروع تحديدًا لعدة أسباب، أولها أن تقنين الأوضاع يطرح في كثيرٍ من الأحيان باعتباره الحل السحري لأغلب مشكلات المناطق اللارسمية، وثانيها أن تجربة تقنين الأوضاع لم تطبق في مصر فعليًا سوى في مناطق محدودة ومعدودة منها منشية ناصر وكان يُأمل أن تصبح نموذجًا قابلًا للتكرار في مناطق لارسمية أخرى. لذا وجب علينا التأمل فيما آلت اليه هذه التجربة وتقييمه. بدايةً، رصد الباحثون (رانكل 2009 ؛ بيفيرو 2009) تردد أهم جهاز حكومي مختص في هذا الشأن وهو وزارة الاسكان حيث قاومت الفكرة في البداية وانتهت إلى أن يعد وزير الإسكان سكان المنشية بحصول الجميع دون استثناء على عقود الملكية عام 2000. استلزم الأمر عدة سنوات لاتمام المسائل الإدراية من قرارات وموافقات ومحاولات انشاء قاعدة بيانات، وخلال هذه السنوات تغير المحافظ وتغير أيضًا مدير المشروع المعين من الجهة المانحة. حتى فُتح الباب فعليًا لاستقبال طلبات السكان الراغبين فى شراء الأراضى الخاصة بهم عام 2006. وردت الطلبات على نحو بطىء دعى إدارة المشروع للتعاون مع القادة المحليين على مدار سنتين لتشجيع السكان على التقدم بطلباتهم، ومع ذلك لم يتجاوز عدد الطلبات المقدمة 200 طلب حتى عام 2008. اختلف القائمون على المشروع في تفسير ضعف الإقبال على تقنين الأوضاع وفشل الحكومة والجهة المانحة في تنفيذ مخططهم خلال عشر أعوام كاملة، بعضهم أشار لغلو أسعار الأراضي المطروحة على السكان الذين اختلفوا مع الحكومة وفيما بينهم على كيفية تحديد سعر عادل. وأشار الآخر لأن السكان في الحقيقة لم يكونوا مهتمين بالملكية القانونية أيًا كان السعر لأنهم لا يشعرون بتهديد حيازتهم ويملكون الحد الأدنى من الخدمات التي يحتاجونها، ولا يرون الفائدة الحقيقية التي ستعود عليهم جراء ذلك. في النهاية توقفت كل إجراءات تقنين الملكيات حين حلت كارثة انهيار صخرة الدويقة وأصبح الهدف الأول مسح المنطقة جيولوجيا من أجل ضمان سلامتها للسكنى.6
تأخر تنفيذ مشروع البنية التحتية لأن الأراضي لم تٌملّك للأهالي، ولصعوبات تنفيذية أخرى وبالتالي، لم يحرز فريق المشروع هدفه في المرحلة الأولى من بناء الثقة مع المجتمع المحلي، مما أدى لاعتماده على القيام بمبادرات أصغر حجمًا مع الأهالي لخدمة احتياجاتهم الأساسية، ولتعزيز مشاركتهم وبناء الثقة معهم. كما لم يكن سهلًا على الوكالة الألمانية بناء ثقة مع رئاسة الحي بسهولة، وذلك نظرًا لأن رئيس الحي يتم تبديله على فترات قصيرة ، مما يستلزم بدء العملية من أولها مع شخص جديد كل حين.
بتأمل الأطراف المشاركة في المشروع تظهر أولى وأهم المشاكل التي واجهت تنفيذ المشروع على الأرض. فالأطراف المعنية بالتخطيط والتنفيذ لا يملكون نفس قوة التأثير على عملية اتخاذ القرار فيما يخص الحي. الحكومة والجهة الممولة هما الأقوى في المعادلة، ولذلك كانت مشاركة الأهالي في عملية اتخاذ القرار غير مرحب بها من جهة الحكومة، وتنطوي على بعض الحساسيات السياسية (بيفيرو، 2009). كانت مشاركة الأهالي تتم غالباً بشكل غير رسمي، وفي القضايا التي لا تشكل تهديدًا سياسيًا لسلطة الحكومة.على الناحية الأخرى، لم يكن ممكنًا للوكالة الألمانية أن تكتفي بدور الناصح لرئاسة الحي أو المحافظة، لأن، طبقا لتقرير الوكالة الألمانية الصادر عام 2002، كلتا الجهتين كانتا تفتقدان المهارة و الموارد اللازمة لتنفيذ المشروع (بيفيرو، 2009).
لم تكن الجمعيات الأهلية بالمنطقة قادرة على لعب دورها كشريك أساسي في المجتمع. فعلى الرغم من أن منطقة المنشية تحتوي على عدد كبير من الجمعيات الأهلية المسجلة التي قد تتعدى المائة جمعية، إلا أن النسبة الأكبر من تلك الجمعيات هي جمعيات خيرية بالأساس. أما الجمعيات التنموية القليلة بالمنطقة فإنها غير مؤهلة لقيادة حركة تغيير اجتماعي على الأرض. يرجع ذلك في جزء منه إلى التضييقات القانونية التي تعاني منها الجمعيات في مصر، و في جزء آخر، لأن الجمعيات تعتمد في تمويل أنشطتها على أجندة الجهات المانحة، مما يبعدها احياناً عن سد الاحتياجات الحقيقية في المجتمع، كما يخلق مناخا من المنافسة بين الجمعيات و بعضها البعض على مصادر التمويل مما يعطل إمكانية التعاون فيما بينهم لخدمة المنطقة.
في هذا السياق، لم يكن واضحا معنى كلمة “المشاركة” التي ارتكز عليها مدخل الوكالة الألمانية. فمشاركة الأهالي كانت تتم على نطاق غير رسمي بسبب الحساسيات السياسية مع الحكومة، كما أن الحكومة والمجتمع الأهلي لم يكونا قادرين على لعب دورهما كشريكين في عملية التنمية لأسباب سياسية وصعوبات إدارية. لم يتغير الأمر بالنسبة للمشاركة كثيرا في المرحلة الثانية و الثالثة من المشروع، و ظلت مشاركة الأهالي و الجمعيات الأهلية للحكومة في عملية اتخاذ القرار محدودة أو غائبة في أحيان كثيرة (بيفيرو، 2009).
خطة الدولة لتطوير المنطقة
أعلنت الحكومة عن مشروع القاهرة 2050 في ٢٠٠٧، و الذي كان من ضمن تخطيطه نقل سكان المناطق الخطرة و سكان المقابر لحدود القاهرة، بينما يحول أماكنهم لمنطقة حدائق كبيرة. لكن هذه الخطة لم تنفذ، و في أبريل 2014 تم وضع حجر الأساس بمشروع حي الأسمرات بالمقطم و الذي يضم 6300 وحدة سكنية ينتظر تخصيصهم لنقل سكان المناطق الخطرة بالدويقة و منشية ناصر إليهم. و في نوفمبر من نفس العام، أصدر رئيس الجمهورية قرارًا بإنشاء صندوق تحيا مصرالذي يمول حاليًا مشروع “تحيا مصر” و الذي يعد المرحلة الثانية من مشروع حي الأسمرات و اللذان يوفران معا 11,300 وحدة سكنية. يقام المشروع على أرض محافظة القاهرة و تساهم وزارة التطوير الحضري و العشوائيات (صندوق تطوير العشوائيات التابع لوزارة الاسكان حاليًا) بـ 195 مليون جنيه من تكلفة المشروع. ووفقًا لتصريحات د. ليلي اسكندر وزيرة التطوير الحضري و العشوائيات السابقة ، سيتم تخصيص عدد من الوحدات في هذين المشروعين لأهالي الدويقة و منشية ناصر.
على الناحية الأخرى، نرى كيف خططت الدولة لتطوير المنطقة خلال أكثر من ثلاث عقود وتعاونت مع الجهات المانحة الدولية، كما خصصت الدولة مبالغ طائلة لإيصال الخدمات والمرافق لأهالي المنشية على مراحل عدة، منها المباني التعليمية والصحية والاجتماعية. تصل تكلفة بعض هذه الخدمات للملايين ويتم إنشائها بمعايير جيدة للغاية كمثال مركز الشباب الذي تم افتتاحه في 2014 ووفق مصدر بمحافظة القاهرة كانت تكلفة ملعب كرة القدم وحده تقدر بمليوني جنيه مصري. مع وعود بانشاء المزيد من الخدمات الرياضية والشبابية بالمنطقة.
ومؤخرًا في 2015، خصصت الحكومة 500 مليون جنيه لتطوير منطقة منشية ناصر. المشروع الذي أعلنت عنه د. ليلى اسكندر، الوزيرة السابقة لوزارة الدولة للتطوير الحضري والعشوائيات7، يتضمن تقنين أوضاع الأهالي بالمنطقة و التفاوض معهم و استشارتهم حول خطة تطوير الحي وطلاء واجهات المنازل في منشية ناصر. قامت الوزارة بالفعل بطلاء 211 واجهة على طول طريق الأوتوستراد ضمن مشروعها لطلاء واجهات أربع مناطق لارسمية. كما يتم حاليًا تطوير سوق كبير بمنشية ناصر. وجنبًا إلى جنب يتم التطوير بمناطق وهدم مناطق أخرى داخل المنشية -كما سبق أن ذكرنا في مناطق وادي فرعون، والتي يفترض فيها الخطورة حسب رواية الأجهزة الحكومية، ونقل أكثر من ألف أسرة من السكان إلى مساكن حكومية بمدينة السادس من أكتوبر.
لا نعرف تحديدا إن تغيرت الخطط بعد حل الوزارة وانضمام صندوق تطوير العشوائيات للهيئات التابعة لوزارة الاسكان، ولكن العاملين بالصندوق يؤكدون استمرار عملهم بالمشروع بنفس التوجه التشاركي وستكشف الأيام القادمة تفاصيل أكثر حول عملية التطوير والإجراءات المتبعة بها.
الخلاصة
الكتابة عن منشية ناصر وغيرها من المناطق هي فعل مقاوم للصور النمطية التي ينقلها الإعلام عنها بشكل مشوه أو مختزل. مجتمع المنشية مجتمع قوي، كان قادرًا على بدء تنظيم إجتماعي و نشاط أقتصادي على أرض جبلية بلا مرافق. و هو المجتمع الذي تمكن رواده من النظر للقمامة و براميل الزيت كفرص تنتظر من يستثمرها. و هو المجتمع الذي حافظ على أمان سكانه من سنة 1960 و حتى إنشاء أول قسم شرطة به سنة 1990. و هو المجتمع الذي تمكن من الاستمرار حتى في ظل سياسات معادية لوجوده. هناك العديد من المشاكل في الحي، ولكن هناك أيضا العديد من الأسئلة التي ينبغي أن نفكر بها قبل أن نصدق الصور النمطية التي يروجها الإعلام و قبل أن نبدأ مشروعات تنموية جديدة في المنطقة، مثل لمن تذهب أراضي الدولة؟ و ما هي فكرة الدولة عن التطوير؟ و لمن تبنى المدن الجديدة؟ و من يتحمل تكلفتها؟ و لماذا تستمر مشاكل المناطق غير المخططة على الرغم من تنفيذ عدة مشروعات تنموية بها؟ فلربما تساعدنا هذه الأسئلة على تخيل حلول بديلة للمنطقة، و على رؤية المكان و أهله بشكل أكثر توازنًا.
بدايةً لا يمكننا التعامل مع منشية ناصر كمنطقة واحدة متجانسة، فكما اتضح ان لكل منطقة داخل المنشية تاريخ لنشأتها ونسيجها الاجتماعي والعمراني المختلف نسبيًا، كما يتباين أيضًا المستوى الاقتصادي داخل المنطقة و مستوى الخدمات و البنية التحتية ما بين منطقة و أخرى. لكننا يمكننا أن نلاحظ نمطًا متكررًا صاحب انتقال المجموعات المختلفة للمنشية، فغالبًا ما كان يُهجّر الفقراء من مكان لآخر دون أن يمتلكون رفاهية تخطيط مكانهم الجديد، دون مرافق في المكان الجديد، ودون أوراق ملكية له، ويجدون لأنفسهم طريقة للعيش. بينما سياسات الدولة تزيد من حرمانهم، و تجعلهم يواجهون يوميًا واقعًا أشد حدة من رفاقهم في نفس المدينة.
إذا كانت ثمة دروس نتعلمها للمستقبل من منشية ناصر عن تطور المدينة ونموها، فالدرس الأول الالزامي هو أن الفقراء أيضًا يحتاجون مسكن. في بلد تمتلئ بهم لا يجد الفقراء من يخطط من أجلهم، لا نتكلم هنا عن مشاريع الاسكان التي تبنيها الدولة بالكامل بتكلفة عالية ولا تكفي سوى عدد ضئيل للغاية لا يمثل نسبة تذكر من فقراء المدينة وطبقتها الوسطى وتواجه علامات استفهام كبرى في كيفية تخصيصها والفئات المستهدفة منها. نتكلم عن التخطيط بمعناه الأشمل، عن توفير أراضي مرفقة ومخططة للفقراء يستطيعون البناء عليها بأنفسهم ولكن بمعايير ملائمة تحترم انسانيتهم، عن تخطيط مناطق امتداد المدينة المتوقعة لاستيعاب الاحتياج المتزايد للسكن والعيش إما بسبب النمو السكاني الطبيعي أو الهجرة الداخلية المتزايدة للعاصمة نتيجة الظروف الاقتصادية والاجتماعية وتركيز الاستثمارات وفرص العمل والخدمات في اقليم بعينه داخل الجمهورية. هذه هي المشكلة الأساسية، نعم هناك فقراء في بلادنا وبالطبع هم يحتاجون السكن وان لم تخطط الدولة لذلك في الوقت المناسب فلن ينتظروها على أبواب المدينة مفترشين رمال الصحراء إلى أن تفعل، سيذهبون للمضاربين ومن يبنون المساكن في المناطق غير المخططة (سواء كانوا يحوزونها بأوراق ملكية خاصة، أو بوضع اليد) لشراء أو تأجير وحدة سكنية تكفل لهم المأوى والمعيشة. فالمدن المخططة غالبًا لا ترغب بهم وتقصيهم بكافة الأسلحة الممكنة التي أهمها أسعار المساكن التي لا يقدرون عليها. المثير للاهتمام أيضًا في حالة المنشية أنه رغم إدعاء السكان الأوائل لمنطقة الزبالين أن الدولة هي من نقلتهم إلى هذه البقعة من الأرض، وثبوت أن مساكن الإيواء قلب منطقة الدويقة هي مساكن قامت بتنفيذها ونقل المواطنين إليها الدولة أيضًا تظل الدولة حائرة بين الاعتراف بالمنطقة وأهلها وبين ادعاء عدم قانونية ومشروعية وضعهم. كذلك نجد أن الدولة تدخلت في منشية ناصر بالتطوير أكثر من مرة خلال أربعة عقود كاملة، بمشاركة خبراء محليين ودوليين، وصرفت عليها مبالغ طائلة، ورغم ذلك مازالت المنشية رسميًا تصنف داخل اطار المنطقة العشوائية التي بنيت بعيدًا عن أعين الدولة والقانون.
حين تدخلت الحكومة بمعالجة الوضع كان الأولى بها أن تقم بالتخطيط لامتداد المنطقة القائمة بالفعل والتي اعترفت بوجودها وضخت بها الأموال لتطويرها، فليس أمرًا استثنائيًا أو مفاجئًا أن تمتد المدن القائمة ويتكتل حولها بشر جدد طامعين فيما خلقت حولها من فرص عمل ومسكن رخيص في متناول أيديهم. كانت مسئولية الحكومة وأجهزتها المحلية لا غيرهم أن يحددوا مناطق الخطورة القصوى ويمهدوها لتصبح صالحة للبناء أويحظروا البناء عليها بشكل صارم مع السماح بالبناء في المناطق التي لا تواجه خطورة تهدد الحياة، فهناك مدن بأكملها حول العالم مبنية على الجبال ولكن كيف تبني هو لب المشكلة وليس كونها تبنى من عدمه كما يروج البعض. نجد أنه بالعكس حين بنت الحكومة مساكن الحرفين لم تراعي الطبيعة الجيولوجية للمكان -وفق التقرير الرسمي الذي تم لتعيين مناطق خطورة- وبنت عمائرها الرسمية الحكومية بشكل يضغط على الصخور تحته بل ولم تهتم بصيانة المرافق لاحقًا فأصبحت المساكن الأهلية التي بناها أهالي شارع الرزاز أسفل هذا المنحدر الجبلي مهددة الآن بالخطورة جراء خطأ البناء الحكومي. وفي النهاية يتحمل الأهالي العبء الأكبر من الخسائر.
صاحب دخول الحكومة والجهات المانحة للمنطقة، بالطبع، تحسن تدريجي في البنية التحتية، لكنه ظل دائمًا محصورًا في خانة رد الفعل ومعالجة ما تم إفساده وليس التخطيط بشكل يستوعب مشكلات الحاضر وما سيصاحب النمو المستقبلي الحتمي من مشكلات أعمق. وظلت مع ذلك مشاركة الأهالي في اتخاذ القرارات الخاصة بحيهم محدودة. لم تتعامل الحكومة مع الأهالي أو الجمعيات الأهلية كشركاء حقيقيين في عملية التنمية، لم يتم تبادل معلومات كافية معهم عن بدائل السكن المتاحة ولا عن خطة تطوير حيهم، كما لم تضع آليات عمل جادة لحلول مستدامة للإدارة المحلية تضمن أن التطوير لن يذهب هباءًا نتيجة اهمال صيانة شبكات المرافق أو غياب الرقابة على البناء وإهمال أعمال البلديات كرصف الطرق وادارة المخلفات وخلافه. فضلًا عن التخبط في القرارات الحكومية التي تعترف يومًا بتقنين الأوضاع ثم ترجع عن قرارها في فترة لاحقة، تطور المنطقة يومًا وتنقل أهالي إلى أقاصي أطراف المدينة في اليوم التالي دون اعتبار أنشطتهم الاقتصادية الموجودة في المنطقة ودون السماع لهم، فتكون النتيجة رجوعهم الحتمي إلى المنطقة التي يعملون بها ويمتلكون شبكات حماية اجتماعية بنوها عبر سنوات، لتزداد وتيرة العشوائية والنمو غير المخطط للمنطقة. ما نتعلمه إذن من تجربة منشية ناصر أنه لن ينجح أي مشروع للتطوير ويثبت فاعلية إذا لم يعي العوامل المختلفة التي تؤثر في استيطان سكان المدن لبقعة دون أخرى، ومن أهم مصادر هذا الوعي المعرفة المحلية لدى السكان أنفسهم ودراسة احتياجاتهم بشكل جاد واشراكهم في اتخاذ القرار من خلال عملية تشاركية حقيقية يتم فيها التعامل مع الأهالي كأصحاب حق و ليس كمتلقين فضل أو معونة.
وبمنظور أشمل، نتعلم هنا درسًا في غاية الأهمية لا يخص منطقة المنشية وحدها وإنما السياسة العامة للتعامل مع المناطق القائمة في جمهورية مصر العربية، فالتصنيفات التي تعلنها الحكومة بخصوص المناطق لا تكون معبرة عن أوضاعها واحتياجاتها الفعلية في كل الأحوال ولا تفيد الجهات المخطِطَة للتنمية والتطوير العمراني بأي شكل حقيقي وفعال. بالطبع لا مفر من تحديد المباني والمناطق غير الآمنة وإنقاذ السكان من أي تهديد على الحياة قد يلحق بهم، لكن كون المنطقة بأكملها غير مخططة أو “عشوائية” هو تصنيف لا يشي بما تحتاجه فعليًا أي منطقة من تدخلات، فعلى سبيل المثال نجد أن مناطق أخرى كدار السلام لم تشتهر بوصف “العشوائية” كمنشية ناصر رغم أن أوضاعها مشابهة كثيرًا للمنشية بل نجد فيها نقص في الخدمات التعليمية مثلًا أكبر بكثير وأخطر مما تعانيه المنشية، ولكن نتيجة لهذا الوصف الذي لحق بالمنشية تتلقى المنشية الكثير من الأموال المخصصة للتنمية على خلاف دار السلام والعديد من المناطق الأخرى المحرومة من الخدمات. على الرغم من ذلك، ومع ضخ كل هذه الأموال عبر كل هذه السنوات نرى تخبط الرؤى فيما يخص مستقبل منطقة المنشية وتخطيطها بشكل عام، فلا نستطيع أن نرصد سياسة واحدة للتعامل مع المنطقة بغرض إحداث تغيير حقيقي وإخراجها من خانة “العشوائية” التي حوصرت داخلها إلى يومنا هذا رغم كل ما يبذل من جهود. لن يكون علاج هذا التخبط والذي ينتج عنه هدر في الأموال والطاقات وتهديد مستمر لاستقرار السكان وحيازة سكنهم وعملهم، سوى برصد دقيق للموارد الموجودة بالفعل في المناطق اللارسمية والاحتياجات الحقيقية لسكانها، ودراسة تشاركية جادة للأولويات بحيث توظف الموارد المالية المتاحة في أفضل استخدام لها لتحقيق النمو في إطار منظومة عامة وشاملة للتخطيط للعادل والإدارة الحكيمة.
1.عزبة الصفيح التي نشير لها في هذا المقال كانت بالجمالية، و هي تختلف عن عزبة الصفيح الحالية في روض الفرج.
2.لمعرفة قصة بناء الديركاملة،اقرأ.
3.يشير الخبر لأعمال الحفر المرتبطة ببناء مساكن سوزان مبارك التي بدأ العمل فيها في 1998.
4.لقراءة قصة الصخرة كاملة و إخلاء البيوت، برجاء مراجعة تقرير منظمة العفو الدولية 2009 ص 14-36.
5.لاحظ أن هذه النسب تشمل سكان حي منشية ناصر الاداري بأكمله بما فيه سكان مقابر قايتباي .
6.لتفاصيل أكثر عن المشروع، وعن القضية بوجه عام اقرأ مقال تضامن “تقنين ملكية الأراضى: هل يكفى لحل مشاكل المناطق اللارسمية فى مصر؟“.
7.أنشأت الوزارة في يوليو 2014، وتم إلغاؤها في سبتمبر 2015.
المراجع
بيفيرو. (2009).
Piffero, Elena)2009(. What happened to participation urban development and authoritarian upgrading in Cairo’s informal neighbourhoods..
اسكندر. (2010)
Iskander, Laila(2010). Cairo’s waste managers. CID Consulting.
تكسي، بلجن؛ أولدهام، لندا؛ وشرتر، فردرك سي. (1997).
Tekçe, Belgin; Oldham, Linda; and Shorter, Frederic C. (1997.) “Manshiet Nasser: A Cairo Neighborhood,” in Arab Society: Class, Gender, Power, and Development. ed. by Hopkins, Nicholas and Ibrahim, Saad Eddin. Cairo, The American University in Cairo Press.
فهمي وسوتون. (2010).
Fahmi, Wael; Sutton, Keith.(2010). Cairo’s Contested Garbage: Sustainable Solid Waste Management and the Zabaleen’s Right to the City.Sustainability 2010, 2, 1765-1783. Link.
الوكالة الألمانية الانمائية (2009)
GIZ (2009) Cairo’s Informal Areas Between Urban Challenges and Hidden Potentials. GTZ. June 2009.
نعمة الله (1998).Neamatalla, Mounir. (1998). The Mega-Cities Project Publication MCP-018D. The Mega-Cities Project Ó. 1998. Zabbaleen Environment & Development Program. Cairo, Egypt.
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments