تعدّ القضية التي رفعتها “جروتبوم” ضد حكومة جمهورية جنوب أفريقيا من القضايا التي غيرت مسار القضاء الدولي، حيث كانت تلك هي المرة الأولى في أي دولة تصدر فيها محكمة دستورية حكماً يؤكد على دستورية أحد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الأمر الذي أضفى الشرعية على ما يمكن وصفه بأنه “الجيل الثاني” من حقوق المواطنة (وليامز، 2005).
بالنسبة لجنوب أفريقيا، أدى الحكم فى قضية “جروتبوم” إلى توسيع نطاق واجبات حكومة جنوب أفريقيا بشأن الوفاء بحق السكن اللائق المنصوص عليه فى دستور جنوب أفريقيا. كما تعدّ تلك القضية سابقة دولية قد تحمل حكومات أخرى على الوفاء بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية التى نصت عليها دساتيرها. وأهم ما فى حكم “جروتبوم” هو أنه أخذ فى اعتباره ظروف مختلف شرائح السكان فيما يخص بالحق في السكن اللائق، مؤكداً على ضرورة التركيز على الأشخاص الأكثر احتياجاً. فى وقت صدور الحكم، كان لدى حكومة جنوب أفريقيا برنامج إسكان لا يستهان به (وإن لم يف بمطالب الجميع) يقضى ببناء مئات الآلاف من الوحدات السكنية كل عام. ولكن المحكمة الدستورية لاحظت فيه عيباً كبيراً، وهو أن البرنامج المذكور يهتم بالمساواة على حساب العدالة. لذا لم تقدم المحكمة بتفسير الحق فى السكن اللائق على أنه التزام من جهة الدولة بتقديم الإسكان للجميع، ولكن على أنه “اهتمام خاص (من قبل الدولة) بأولئك الذين لا يتم الوفاء بأدنى احتياجاتهم”. (سانستاين، 2001، 1).
قبل الحكم في قضية “جروتبوم”، كانت الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، مثل الحق فى المأوى والمسكن والملبس والتعليم، تعد من وجهة النظر القضائية حقوقا لا يمكن فرضها بقوة القانون وحده، وذلك بسبب “الاعتبارات الديمقراطية ومحدودية الموارد العامة”. وهناك بعض النقاط التى يجب أخذها هنا بعين الاعتبار:
أولا، هناك بعض الغموض فى تعريف الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، وذلك بسبب افتقارها إلى السوابق القضائية. مثلا، لو ضمنت الحكومة الحق في الإسكان اللائق، ما الذي يعنيه هذا “الإسكان اللائق”؟ هل هو المأوى فحسب؟ هل هو المأوى وإتاحة مياه الشرب؟ هل هو المأوى ومياه الشرب والكهرباء والصرف الصحي؟ هل هو إتاحة فرص العمل لكل من يعيشون فى المجتمع؟ هناك أمور كثيرة تترتب على طريقة تعريف الدولة لهذا الحق.
ثانيا، يمكن اعتبار الحقوق الاجتماعية والاقتصادية حقوقا “إيجابية”، وذلك مقارنة بالحقوق المدنية والسياسية التى تعد حقوقا “سلبية”. والفرق بين الحالتين هو أن الحقوق الإيجابية تلزم الآخرين بالقيام بعمل ما، فى حين أن الحقوق السلبية لا تتطلب من الآخرين سوى الامتناع عن عمل ما. مثلاً، الحق فى الخدمات الصحية هو حق إيجابي، بمعنى أن تنفيذه يتطلب أن تقوم الدولة ومقدمو الخدمات الصحية باتخاذ العديد من الإجراءات. أما الحق فى التعبير فهو حق سلبي، بمعنى أن واجب الدولة والمواطنين هو الكف عن أى تصرف من شأنه كبت الحق فى التعبير لأي مواطن. وبينما يتطلب الوفاء بالحقوق الإيجابية الكثير من الموارد، فإن الوفاء بالحقوق السلبية لا يتطلب موارد تذكر.1
وأخيرا، يعتقد مناهضو الحقوق الاجتماعية والاقتصادية أن السلطة القضائية يجب أن تمتنع عن التدخل فى فرض العدالة الاجتماعية فى سياق النظام الديمقراطي التمثيلي (مبازيرا، 2009)، على أساس أن هذا الأمر هو من اختصاص الأجهزة التشريعية.
تتضمن المسودة النهائية لدستور 2013 في مصر، عدة حقوق اجتماعية واقتصادية، من بينها الحق في السكن. ولكن الدساتير عموما هي مواثيق مثالية، فهي تعبر عما يحاول الشعب أن يقوم به وليس ما يقوم به بالفعل، وهى تستخدم كمعيار لتقييم أداء الحكومة، كما أنها تستهدف حماية المواطنين من الحكومات التي تفشل في الوفاء بالتزاماتها الدستورية.
وقد يؤدى الحكم الذي أصدرته المحكمة الدستورية في جنوب أفريفيا، والذي يستهدف فرض تلك الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، إلى دعم موقف منظمات المجتمع المدني والمجتمعات المحلية والناشطين الحقوقيين في الدفاع عن تلك الحقوق من أجل أن يؤكد عليها الدستور المصري الجديد.
يعتبر دستور جنوب أفريقيا أحد أكثر الدساتير تقدماً والتزاماً بالتغيير في العالم (سانستاين، 2001)، حيث ينص على العشرات من الحقوق المستقلة والتى يعددها على مدى 32 قسما من “وثيقة الحقوق” (الفصل الثانى) التى يتضمنها ذلك الدستور. وقد تمت صياغة هذا الدستور من أجل “الاعتراف بالمظالم” و”معالجة الانقسامات” التي تسبب فيها نظام التمييز العنصري وبهدف “إقامة مجتمع مبنى على القيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان الأساسية” (دستور جنوب أفريقيا، المقدمة)، مع إنهاء كل أثر لسياسة التمييز العنصري وضمان عدم عودتها. تم الانتقال من التمييز العنصري إلى الديمقراطية في جنوب أفريقيا من خلال عملية تفاوضية بدأت فى 1990 وأسفرت عن انتخابات حرة ودستور انتقالي فى 1994. وفى ظل هذا الدستور الانتقالي، قامت الجمعية الدستورية بصياغة الدستور النهائي الذى تم اقراره فى اوائل 1997 بعد مرحلة من النقاشات المنظمة والمفتوحة والتشاركية أسهم فيها الجمهور بشكل كامل واستغرقت أكثر من عامين ونصف (ساركين، 1999).
ينص دستور جنوب أفريقيا على مجموعة من الحقوق الاجتماعية والاقتصادية، بما فيها الحق فى السكن. وسوف نورد مقتطفات من النصوص ذات الصلة بقضية “جروتبوم” فيما يلى.
.
القسم 26
القسم 28
كانت “أيرين جروتبوم” واحدة من 4,000 ساكن يعيشون فى ولاسيدين، وهى منطقة سكنية غير رسمية تقع على أطراف كيبتاون، فى 1998 (ويكيرى، 2004).
وكانت الأحوال المعيشية فى تلك المنطقة مزرية وسكانها فى غاية الفقر. ولم تكن هناك أى مياه جارية أو صرف صحى أو خدمة لجمع القمامة. ولم تكن هناك كهرباء سوى فى خمسة فى المائة من البيوت. وكان خمسة وعشرين فى المائة من السكان بلا دخل، وأكثر من ثلثى السكان يعيشون على أقل من 70 دولارا فى الشهر. وكان أغلب السكان قد تم ادراجهم على قوائم انتظار البلدية الخاصة بالسكن اللائق، وبقى بعضهم فى الانتظار لفترات تصل إلى سبع سنوات (جروتبوم، 2000).
وقد أقدم حوالى 900 شخص من هؤلاء، منهم 500 طفل، على إقامة عشش على أرض فضاء قريبة كانت الحكومة قد خصصتها لإقامة مساكن قليلة الكلفة فى المستقبل. وبعد أن أقاموا على تلك الأرض لمدة ثلاثة شهور، تلقوا أمراً بالطرد من الحكومة. وقد رفض المجتمع الانتقال على أساس أنه ليس لديهم مكان يذهبون إليه وأن منازلهم السابقة قد سكن فيها آخرون. فى 18 مايو 1999، قامت الحكومة بإجلاء المجتمع بالقوة وأزالت منازلهم ودمرت متعلقاتهم الشخصية. ونظراً لأن هؤلاء السكان لم يكن لديهم مكان آخر يلجئون إليه، فقد انتقلوا للسكنى فى ملعب رياضى قريب (جروتبوم، 2004).
وقد رفع أعضاء هذا المجتمع قضية على كل مستويات الحكومة (البلدية والولاية والدولة) في محكمة عليا تدعى “كيب أوف جود هوب”2 من أجل الحصول على مأوى مؤقت أو سكن إلى أن يحصلوا على مساكن دائمة، وأيضا طلبوا من الحكومة تزويدهم بغذاء أساسي ورعاية صحية وخمات اجتماعية، وفقا لنص الدستور الجنوب أفريقي. حكمت المحكمة بأن الحكومة لم تنتهك “القسم 26″ من الدستور (الحق فى الحصول على سكن لائق) على أساس أن الولاية مواردها محدودة وهى تبذل جهداً لتنفيذ برنامج للإسكان، ولكنها حكمت في صالح المدعين استنادا إلى “القسم 28 (أ) (ج)” من الدستور الذى ينص على أن لكل طفل حق أساسى فى المأوى بغض النظر عن موارد الدولة، وعندما يكون الآباء عاجزين عن تقديم المأوى لأطفالهم ينبغى على الدولة أن تتدخل (جروتبوم 2000).
انتقلت القضية بعدها إلى المحكمة الدستورية، حيث ألغت الأخيرة الحكم الصادر من المحكمة العليا وقررت أن المواطنين ليس لهم الحق في المطالبة بالمأوى على نحو فورى تحت أى من بنود الدستور. وأضافت المحكمة الدستورية أن واجب الدولة في الوفاء بحق الحصول على مسكن لائق لا يجب أن يتم من خلال تزويد المأوى بشكل مباشر ولكن طبقا “للقسم 26 (2)” من الدستور، من خلال “التشريع المعقول وغير ذلك من الإجراءات وفى حدود الإمكانيات المتاحة”. وقد أثنت المحكمة الدستورية على إنجازات برامج الإسكان القومية والمحلية، ولكنها رأت أنها تتجاهل الحاجات قصيرة المدى للطبقات الأكثر فقراً في محاولتها لتحقيق الأهداف المتوسطة والقصيرة المدى. “البرنامج الذي يستبعد قسمًا كبيرًا من المجتمع لا يمكن أن يعتبر معقولا” (جروتبوم، 2000،34). والبرنامج “المعقول” يجب أن يتضمن إجراءات لتقديم العون لأولئك الأفراد الذين يعيشون في ظروف غير مقبولة أو مأساوية مثل تلك التي كانت موجودة فى ولاسيدين (جروتبوم، 2000).
ويعد هذا الحكم الصادر من المحكمة الدستورية حكمًا متفردًا في أنه يميز بين أولئك الذين يمكنهم الحصول على سكن لائق وأولئك غير القادرين على ذلك، وهو ما يصفه “سانستاين” بأنه “مدخل جديد للحقوق الاجتماعية والاقتصادية … (يرتب) الأولويات بحكمة ويركز على معاناة الأفراد الأكثر احتياجًا” (سانستاين، 2001، 8). بالنسبة لأولئك الذين لا يمكنهم تحمل نفقة السكن، فإن واجب الدولة هو تقديم مأوى لهم، كما يجب على الدولة اصدار التشريعات المناسبة لتسهيل عملية التمويل مع تغيير خرائط التخطيط واستخدامات الأراضى، بهدف بناء منازل من أجل هؤلاء الذين ليس لديهم المال لتحمل تكاليف السكن.
يتوقف واجب الدولة… على السياق، وقد يختلف من منطقة إلى منطقة ومن مدينة إلى مدينة ومن المناطق الريفية إلى المناطق الحضرية ومن شخص إلى شخص. البعض قد يحتاج قطعة أرض ليس إلا والبعض قد يحتاج الأرض ومواد البناء والبعض قد يحتاج بعض التمويل والبعض قد يحتاج توصيل الخدمات مثل الماء والصرف الصحي والكهرباء والطرق. وما قد يكون مناسبًا فى المناطق الريفية حيث يعيش الناس سويًا فى مجتمعات تمارس الزراعة التى تسد الرمق قد لا يكون مناسبًا في المناطق الحضرية التي يبحث فيها الناس عن العمل وعن مكان يسكنون به (جروتبوم، 2000، 30).
يجب أن تتم معالجة موضوع السكن الملائم بالنظر إلى كل حالة على حدة، ومن واجب الدولة أن تصمم برامج بها من المرونة ما يسمح بالاستجابة لمختلف الاحتياجات.
وهناك نقطة أخرى هامة فى حكم المحكمة الدستورية: فقد ربط بين الحقوق الاجتماعية والاقتصادية – والتي كانت في العادة تعتبر غير قابلة للتطبيق من وجهة النظر القضائية – بالحقوق السياسية والمدنية. (سانستاين، 2001).
لا شك في أن الكرامة الإنسانية والحرية والمساواة، وهى القيم الأساسية لمجتمعنا، يحرم منها من يفتقرون إلى المأكل والملبس والمسكن. منح الحقوق الاجتماعية والاقتصادية لكل الناس يمكنهم من الاستمتاع ببقية الحقوق التي أكدها (الدستور)” (جروتبوم، 2000، 19).
تم ذكر الحق في السكن لأول مرة في المادة 67 من دستور 2012، و تم التأكيد على هذا الحق في المادة 63 و 78 من المسودة النهائية لدستور 2013. يقدم مقال “الحق في المسكن الملائم” تحليلاً أعمق للمواد الدستورية الخاصة بالحق في السكن في كلا من دستور 2012 و 2013.
كيف ستقوم الحكومة المصرية بالتعامل مع هذه المسؤولية فى الوقت الذي تتفاقم فيه أزمة السكن المنخفض الكلفة فى البلاد؟ هناك عجز يقدر بين مليون وحدة ومليون ونصف وحدة سكنية، وهناك طلب متزايد بمعدل 300,000 وحدة سنويًا (“مصر: الإسكان أولوية” 2012). وفى نفس الوقت، توجد حوالى 3.7 مليون وحدة سكنية خالية أو مغلقة (البنك الدولي وهيئة المعونة الأمريكية)، منها 2 مليون وحدة فى القاهرة وحدها (بيفيرو، 2009، 23). لقد أدى تقييد الإيجارات بشكل مبالغ فيه إلى تضاؤل سوق الإيجار، ونظرا لأن سوق الاقتراض التمويلي يستهدف الطبقات العليا فحسب، اضطرت الطبقات المتوسطة ومحدودي الدخل إلى العثور على سكن من خلال أساليب تتجاهل القوانين والإجراءات الرسمية (الكفراوى، 2012). وقد ورد فى تقارير أخيرة صدرت عن وزارة التنمية المحلية ووزارة الإسكان أن هناك 5 مليون مسكن غير مرخص على المستوى القومى (“مسؤول: مصر لديها 5 مليون”، 2013)، وهو ما يوضح أن الاقتصاد غير الرسمي هو الذى تولى الوفاء بالطلب الهائل على السكن.
لدى مصر تاريخ طويل من السياسات والبرامج الخاصة بالإسكان والتي تم وضعها من أجل توفير فرص سكنية للجمهور. كان “جمال عبد الناصر” (1952-1970) يضع نصب عينيه هدف توفير الخدمات الأساسية لجميع المصريين، حيث قام بتأميم شركات بناء المساكن ومواد البناء وفرض قوانين صارمة لتقييد الإيجارات وسياسات لمنع طرد المستأجرين، وذلك بهدف تحقيق العدالة فى سوق الإسكان. ولكن تلك السياسات أدت لانسحاب القطاع الخاص من سوق الإسكان الإيجارى فى وقت تزايد فيه الطلب على المساكن بسبب الهجرة من الريف إلى الحضر (الكفراوى، 2012).
عندما تولى “أنور السادات” الحكم (1970-1981)، قام بتغيير الكثير من سياسات “عبد الناصر” الاشتراكية فى مرحلة الانفتاح، حيث فتح مصر أمام الاستثمار الأجنبي وتخلى عن هدف تقديم الخدمات الأساسية لجميع المصريين. وقد قامت الدولة فى عهد “السادات” أيضا بوضع خطة قومية للإسكان تضمنت انشاء مراكز حضرية جديدة على الأراضي الصحراوية المملوكة للدولة. تلك المراكز الحضرية الجديدة، أو مدن الصحراء، كان من المتصور أنها سوف تجتذب الاستثمارات والسكان بعيدًا عن وادى النيل والدلتا. وقد أنشأت السلطات المصرية سبعة عشر مجتمعًا جديدًا من خلال ذلك البرنامج (وتستمر عمليات الاستثمار فى تلك المناطق إلى اليوم) (الكفراوى، 2012) ولكن تلك المدن الصحراوية لم تفلح فى تخفيف أزمة الاسكان فى المراكز الحضرية التقليدية (سيمز، 2012).
فى عهد “حسنى مبارك” (1981-2011)، استمرت الحكومة فى اتباع نفس المبادرات التي بدأها “السادات”، وقامت بخصخصة الكثير من المؤسسات القومية،3 كما خفضت من الدعم والقيود على الأسعار وسمحت للقطاع الخاص بلعب دور أكبر فى الاقتصاد (الكفراوى، 2012)، ورغم هذا لم تقم بتغيير القيوم المفروضة على الإيجارات. وقد أدى إصلاح القطاع الخاص إلى توسع الشريحة العليا من سوق الإسكان ولكنه لم يغير كثيرًا من الأوضاع فى سوق الإسكان المتوسط والمنخفض الكلفة، مما زاد من الطلب على السكن غير الرسمي. استمرت مبادرات الإسكان ذات الطابع الحكومي فى عهد “مبارك”، حيث قامت الدولة بين 1983 و2008 ببناء 36 فى المائة من إجمالي الإسكان الرسمي في البلاد بتكلفة قدرها 26.4 بليون جنيه، ومعظم تلك المساكن تم بناؤها فى المدن الصحراوية. فى 2005، قامت الحكومة المصرية بتدشين “برنامج الإسكان القومى” الذى تم تصميمه أصلًا لبناء 500,000 وحدة سكنية بحلول 2011، ولكن تم تعديل هدف البرنامج لاحقًا إلى تقديم “حلول إسكانية” بشأن 500,000 وحدة سكنية فى نفس الفترة، وهو ما أعطى الحكومة مرونة في تحقيق هذا الهدف. وقد بدأ مخططو الحكومة في تقديم بدائل سكنية كان من بينها الإيجار والبناء الذاتي، مع تقديم دعم للبناء وتشجيع القطاع الخاص على إنتاج الإسكان المنخفض والمتوسط الكلفة (البنك الدولي وهيئة المعونة الأمريكية، 2008).
.
توفيت “أيرين جروتبوم” فى 2008 وهى ما زالت فقيرة بلا مأوى مناسب لها ولعائلتها. ومن المحزن أن ترحل عن عالمنا تلك المرأة التى ارتبط اسمها بأول قضية تلزم دولة بالوفاء بواجب اجتماعي واقتصادي بدون أن تستمتع بذلك الحق. ولكن “أيرين جروتبوم” هى مجرد واحدة من ملايين النساء اللواتى يعشن فى ظروف غير مقبولة في دول تضمن نظريًا الحق في السكن. واليوم، ما زال ملايين المواطنين فى جنوب أفريقيا يعيشون فى ظروف تشابه تلك التى عاشت فيها “إيرين جروتبوم” فى ولاسيدين قبل 15 عاما. ولكن حكم المحكمة الدستورية قدم بالفعل أداة فعالة للمجتمعات التى تعيش تحت تهديد الإخلاء القسري لكى تكافح من أجل حقوقها، وهو يمثل اللبنة الاولى فى سبيل توسيع نطاق قانون الحق في السكن، بالإضافة إلى أنه يعد سابقة قضائية هامة على طريق تطبيق الحقوق الاجتماعية والاقتصادية (ويكرى، 2004). وقد قامت حكومة جنوب أفريقيا أيضًا بتنفيذ برنامج طارىء لإعانات السكن، تطبيقًا لمنطوق حكم “جروتبوم”، وهو برنامج وصف بأنه “متجاوب ومرن وسريع يهدف إلى التعامل مع أوضاع الفئات التى تفتقر للمأوى وتحدق بها الأخطار، إلى جانب حالات الإخلاء المؤقت أو الدائم للأسر أو المجتمعات الأكثر احتياجًا”. وتتولى الحكومة، من خلال البرنامج المذكور، تقديم المساعدة للسكان فى حالات الإخلاء وإصلاح المنازل وبنائها بشكل رسمي (تطبيق إسكان الطوارىء، 2012).
في مصر، تم إنشاء “صندوق تطوير المناطق العشوائية” بمقتضى قرار جمهوري في أعقاب كارثة الدويقة في أكتوبر 2008، ويستهدف الصندوق توجيه جهود الإسكان الحكومية إلى “المناطق غير الآمنة”. وقد تم تصنيف المجتمعات غير الرسمية أو العشوائيات إلى مستويات من 1 إلى 4. حيث صنفت مناطق مثل الحواف الجبلية بمنشأة ناصر، والتي تتعرض حياة السكان بها للتهديد بسبب عدم استقرار التربة، على أنها من “المستوى 1″، بينما تم تصنيف المجتمعات التي لا يحظى سكانها بضمان حيازة الأرض كالمناطق المبنية على أراضي ملك الدولة أو أراضي الأوقاف على أنها من “المستوى 4″. وكما كان هو الحال في الحكم الخاص بقضية “جروتبوم”، فإن البرنامج المذكور يستهدف قطاعات مختلفة من السكان بغرض تقديم الخدمة للمواطنين الأكثر احتياجا أولاً. ولكن من الملحوظ أن “صندوق تطوير العشوائيات” لا يقدم شرحًا للجمهور حول طريقة عمله وأولوياته. ولم تتضح بعد الطريقة التي سيتطور بها برنامج الإسكان الحكومي ولا الشكل الذي سيتم من خلاله التعبير عن الحق فى السكن فى الدستور القادم.
توضح ظروف وفاة “أيرين جروتبوم” محدودية اختصاصات القضاء وصعوبة تطبيق الحقوق الاجتماعية والاقتصادية: فكل السياسات المتعلقة بتلك الحقوق تواجه صعوبات فى التطبيق، ولو تركنا الأمر فى يد الحكومات، فإنها سوف تتحرك بتثاقل ودون حماس كبير. وقد نشطت الحركات الاجتماعية، مثل “حركة سكان عشش دوربان في جنوب أفريقيا”4، في مجال اقناع الحكومة بالوفاء بالتزاماتها تجاه حقوق السكن أو أي حقوق أخرى مذكورة في الدستور.
إذا تم النص في الدستور الجديد على الحق فى السكن أو أى حق اجتماعي واقتصادي آخر، هل نأمل فى أن تقوم المحكمة الدستورية العليا فى مصر بفرض تلك الحقوق على النحو الذى قامت به نظيرتها فى جنوب أفريقيا؟ الإجابة هى على الأرجح بالنفي – ما لم يطالب الشعب المصري بذلك على نحو صريح.
1. تكلفة تطبيق الحقوق السلبية هي تلك المرتبطة بفرضها، حيث لا يكفى أن تكف الدولة عن التدخل فى تقييد ذلك الحق، ولكنها يجب أن تحمى حرية التعبير من المواطنين الذين يريدون تقييدها، وهو ما يتطلب قيام السلطات الأمنية والقضائية بواجبات معينة. ويلاحظ أن الحق فى التجارة أيضا يتطلب عدم تدخل المواطنين فى أعمال غيرهم، كما يتطلب من الدولة توثيق العقود واستخدام النظام القضائى وتحديد القواعد والاجراءات. ↩
2. Cape of Good Hope High Court↩
3. يشير “صايغ” (2012) إلى تلك المؤسسات بوصفها “شبه عامة” نظرًا لخضوعها لسيطرة عسكريين متقاعدين أو في الخدمة.↩
4. Durban Shack Dwellers Movement in South Africa↩
الصورة المختارة: المحكمة الدستورية بجنوب أفريقيا. الصورة من: إتش باريسون، على فليكر. منشورة تحت رخصة المشاع الإبداعي
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments