لا تزال الفجوة بين الشعب والحكومة قائمة، ولا تزال الهوة الناتجة عن المعلومات المغلوطة وأزمتي الثقة والاحترام متواجدة. فعلى مدار عشرات السنين، تخفي الدولة المصرية المعلومات عن الشعب، وتسمح لهم أحياناً بالوصول إلى بعض المعلومات في بعض المواقف على سبيل العطايا للشعب. نوع المعلومات المحجوبة ليس فقط معلومات حربية أو مخابراتية- كما هو معتاد- ولكنها أيضاً معلومات بشأن الموازنة العامة، ومشروعات البنية التحتية، وتخصيص الموارد. إن حق الحصول على المعلومات يعتبر من الحقوق غاية في الأهمية التي من شأنها أن توجه الدولة لتتوافق إرادتها مع إرادة الشعب. فلا يسعنا القول بوجود حكومة ديمقراطية دون تطبيق مبدأي الشفافية ونشر المعلومات. فعند وجود نقص في المعلومات، يوجد نقص في الثقة، وبدون ثقة الشعب لن تعمل الحكومة بفاعلية وسيظل الشعب في معاناة. فبدون الحصول على الحق في تداول المعلومات للجميع على وجه متساو، لا يمكن للشعب مساءلة الحكومة ولا يمكنه كشف الفساد أو تحقيق العدالة الاجتماعية.
ما هو حق الوصول إلى المعلومات؟
حق الوصول إلى المعلومات هو الحق المكفول لكل مواطن في الحصول على المعلومات علناً. وهو حق مرتبط بحق حرية التعبير عن الرأي، خاصة الحقوق التي لها علاقة بالبحث عن المعلومات والأفكار واستقبالها وتبادلها. يعتبر حق الوصول إلى المعلومات أحد أركان الديموقراطية وهو الواقي من انتشار الفساد، كما يعتبر الخطوة الأولى في تطبيق الحقوق الاقتصادية الاجتماعية الأساسية (مثل: الحق في السكن والغذاء والخدمات الاجتماعية) عن طريق جعل الحكومة أكثر شفافية وقبولاً للمساءلة أمام الشعب. فالحق في تداول المعلومات يدل على أن الحكومة لا تحتفظ بالمعلومات لصالحها ولكنها تعمل بذلك على خدمة الصالح العام.
وعلى الرغم من ذلك، فإن الحق في الوصول إلى المعلومات غير مطلق. هناك أسباب تشريعية قد تحول دون نشر بعض المعلومات مثل أسباب تتعلق بالأمن القومي أو أسباب تتعلق بحماية حقوق أخرى. ومع ذلك، فلا يجب إنكار حق الوصول إلى المعلومات من أجل حماية الحكومة من الإحراج أو مخافة الكشف عن أخطائها.
ما هو أثر حق الوصول إلى المعلومات على حياتنا اليومية؟
الافتقار إلى الشفافية بين المؤسسات الحكومية
تشتهر الهيئات الحكومية والوزارات، التي من المفترض أنها تعمل من أجل هدف واحد مشترك وهو تحقيق الصالح العام للمواطن، بإحجامها عن نشر الوثائق والمعلومات ليس فقط للمواطن بل أيضاً للهيئات الحكومية الأخرى. فالمعلومات والبيانات ما هي سوى حيازة مطلقة للحكومة. ينتج عن هذا النقص في الشفافية عدة مشاكل، مثل الازدواجية في البيانات، واستخدام معلومات غير محدثة، أو العقبات غير المتوقعة التي تحدث أثناء تنفيذ مشروعات حكومية نتيجة حجب المعلومات أو تأخير نشرها. كل هذا مما يقلل من كفاءة الأداء الحكومي على المستويين الإداري والمالي.
الافتقار إلى الشفافية في مجال التنمية العمرانية للمناطق المحلية
الوصول إلى المعلومات العامة أمر غاية في الأهمية في مجال التنمية العمرانية. ولكي يتشارك المواطنون مع الحكومة بفاعلية، يجب أن تكشف مشكلات التنمية العمرانية والقيود المفروضة عليها للعامة. بهذه الطريقة، تستطيع المجتمعات المهمشة استخدام هذه المعلومات لتمكين أنفسهم وتحدي الاستخدام غير العادل للموارد الحكومية واكتساب اعتراف من السلطات المسؤولة. ومثال على تطبيق مثل هذا الاستخدام حدث في منطقة ميت عقبة، حيث وضع أعضاء المجتمع واللجنة الشعبية لميت عقبة خطة مع المسؤولين المحليين والخبراء العمرانيين لتحقيق أقصى قدر من الاستفادة من الموازنة المحددة لرصف شوارع المنطقة . لم يكن هذا ليحدث دون العلاقة القوية بين المجتمع ومسؤولي الحكومة المحليين الذين ساعدوهم في الحصول على المعلومات الضرورية عن تخصيص الموازنة وخطط التنمية. ومع ذلك، فإن المجتمعات لا يجب أن تعتمد على علاقاتها الشخصية مع مسؤولي الحكومة للحصول على المعلومات التي تؤثر على مجتمعهم.
ويظهر افتقار الحكومة إلى الشفافية مع الشعب في مجال التخطيط العمراني. فالسمة الغالبة في مشروعات البنية التحتية التي تستمر لأسابيع وشهور أن سكان المنطقة، الذين هم أكثر الأشخاص تأثراً بهذه الأعمال وبالكثافة المرورية الناتجة عنها، لا يعلمون الهدف من وراء المشروع أو المدة الزمنية المحددة للانتهاء منها. يجب أن تكون المعلومات الخاصة بخطط التنمية، والتي تؤثر بشكل مباشر على الأحياء السكنية، متاحة للعامة لكي يتمكنوا من ممارسة حقهم في التظاهر أو الاعتراض إذا ما ترتب على هذه الخطط تعدياً على حقوقهم. كما أن نقص المعلومات والشفافية ينطبق أيضاً على المعلومات الخاصة بالسلع المدعمة والخدمات العامة الأخرى مثل جمع النفايات.
الافتقار إلى الشفافية فيما يخص المشروعات العامة
يؤدي عدم توافر المعلومات للجمهور بشأن أولويات الحكومة وتخصيص الموارد إلى أن يتم إنفاق ملايين الدولارات على مشروعات قد لا تلبي أولويات الجمهور أو لا تعمل بالكفاءة المرجوة. فعلى سبيل المثال، تم صرف 160 مليون جنيه مصري في مشروع تجميل محطة قطارات القاهرة (محطة مصر) دون تحسين الخدمة المقدمة للجمهور، بل يشير البعض إلى أن الخدمة قد ازدادت سوءاً. لم يشمل المشروع الذي تكلف ملايين الجنيهات تحسين مستوى البنية التحتية المتهالكة، أو رفع مستوى الصيانة لمنع معدل الحوادث المرتفع، أو القيام بتعديلات لتحسين مستوى الخدمة.
مثال آخر هو المخطط العام للقاهرة 2050 المثير للجدل، الذي من المفترض أنه سيحول العاصمة إلى “مدينة عالمية “. المعلومات القليلة التي تم الكشف عنها بشأن هذا المشروع الكبير أحدثت بلبلة في الأوساط الأكاديمية وبين النشطاء والمهنيين، حيث تبين أن هذا المشروع سوف يؤدي إلى إجلاء أعداد كبيرة من السكان، وبالتالي عدم جدوى المشروع اجتماعياُ. ومع ذلك، فإنه من غير المعلوم إلى الآن ما إذا كانت الحكومة تخطط لاستكمال هذا المشروع أم لا.
كيف إذن ستتم مساءلة المسؤولين إذا لم تتوافر المعلومات الخاصة بالموازنة، وكيفية استخدام الموارد واتخاذ القرارات؟
الحد من الفساد
انتشر الفساد في مصر انتشاراً واسعاً، ويتسبب للمجتمع بتأثيرات متعددة وبالغة الأذى. فقد يتم رشوة مفتشي الحكومة ليغضوا الطرف عن أعمال تشييد رديئة الجودة؛ معرضين حياة الكثيرين من المواطنين للخطر. كما يوسع الفساد الهوة بين هؤلاء الذين يحصلون على البضائع بسهولة وهؤلاء الذين يتم إقصائهم. ومن ثم فإن المزيد من الشفافية يقلل من الفساد نسبياً، كما يعد حق تداول المعلومات بين العامة عنصراً رئيسياً لكشف النقاب عن السرية التي تخيم على الدولة المصرية.
حماية المعلومات العامة (الوثائق والمحفوظات)
كيف سيطبق حق الوصول إلى المعلومات دون توثيق المعلومات وحفظها في مكان آمن منذ البداية؟ المواقع الإلكترونية الخاصة بالحكومة غير محدثة، يرجع تاريخ تدوينها إلى عام أو عامين مضوا. لذا، يجب أن تكون السلطات العامة ملزمة بنشر منتظم للمعلومات في صورة أبواب رئيسية وتحديثها باستمرار. يعلم كل من تعامل مع مكتب المحفوظات في أي هيئة من الهيئات العامة أن هناك مشكلة كبيرة في تنظيم الملفات وحفظها. ويكفي القول بأن وثائق مثل تراخيص الهدم أو سجلات رخص القيادة تترك في غرف تخزين مهملة – دون وجود نسخ احتياطية – معرضة للتلف بسبب الماء أو الحرق. يجب أن ينظم القانون إجراءات ملء الوثائق العامة وحفظها.
الحق في الوصول إلى المعلومات في الدستور المصري
على الرغم من توقيع اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بمكافحة الفساد، فإن حق تداول المعلومات ظهر لأول مرة في الدستور المصري عام 2012؛ حيث تنص المادة 47 على:
الحصول على المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق، والإفصاح عنها، وتداولها، حق تكفله الدولة لكل مواطن؛ بما لا يمس حرمة الحياة الخاصة، وحقوق الآخرين، ولا يتعارض مع الأمن القومى.
وينظم القانون قواعد إيداع الوثائق العامة وحفظها، وطريقة الحصول على المعلومات، والتظلم من رفض إعطائها، وما قد يترتب على هذا الرفض من مساءلة.
كان النقد الأساسي لهذا النص هو الغموض فيما يتعلق بمصطلح “الأمن القومي”. ينظم القانون الحدود المسموح بها للحصول على المعلومات بما يتناسب مع الأمن القومي، وجميع الهيئات الحكومية تخضع لحق حجب المعلومات عن العامة لحماية الأمن القومي. ولكن المعنى المبهم لمصطلح “الأمن القومي” يعطي فرصة لتبرير حجب جميع المعلومات. فالموازنة الوطنية والإقليمية والمحلية ليست من قضايا الأمن القومي. خطط التنمية العمرانية ليست لها علاقة بالأمن القومي. العقود التي تبرمها الحكومة ليست لها علاقة بالأمن القومي. يخلق هذا الغموض ثغرة يتهرب بها صناع القرار من المسائلة.
أما في دستور 2014 فقد تم إلغاء الشروط المقيدة لحق الحصول على المعلومات (المساس بالحريات الخاصة، وحقوق الآخرين، والتعارض مع الأمن القومي) من نص المادة 68 التي أحالت كل هذه الأمور للقانون. كما تم إضافة نص يلزم مؤسسات الدولة بحفظ وتأمين الوثائق. تنص المادة 68 على أن:
المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة، حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة بتوفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية، وينظم القانون ضوابط الحصول عليها وإتاحتها وسريتها، وقواعد إيداعها وحفظها، والتظلم من رفض إعطائها، كما يحدد عقوبة حجب المعلومات أو إعطاء معلومات مغلوطة عمدًا.
وتلتزم مؤسسات الدولة بإيداع الوثائق الرسمية بعد الانتهاء من فترة العمل بها بدار الوثائق القومية، وحمايتها وتأمينها من الضياع أو التلف، وترميمها ورقمنتها، بجميع الوسائل والأدوات الحديثة، وفقاً للقانون.
إلى الآن لم يصدر قانون “حرية تداول المعلومات” الذي تشير إليه هذه المادة. تجدر الإشارة إلى أنه في عام 2012، قامت بعض منظمات المجتمع المدني والأكاديميات والشخصيات العامة بصياغة “مشروع قانون حرية تداول المعلومات” وقدمته إلى مجلس الشعب.1 تمت صياغة تعريف مصطلح “الأمن القومي” في مشروع القانون كالتالي:
أمثلة في دساتير دول أخرى
إن الفوائد التي تعود على المجتمع المدني من اكتساب حق الوصول إلى المعلومات موثقة توثيقاً جيداً كما يظهر الانجذاب العالمي تجاه هذا الأمر، حيث أن أكثر من 90 دولة تعترف بحق الوصول إلى المعلومات في تشريعاتها وهناك العشرات من الدول التي تتضمن دساتيرها هذا الحق. حق الوصول إلى المعلومات مكفول في دساتير متعددة مثل المادة 23 من الدستور الألباني الذي يبدأ بـ “حق الوصول إلى المعلومات مكفول”، والمادة 14 من دستور مدغشقر 2010 ينص على “يحق لكل مواطن الوصول إلى المعلومات”، والمادة 51 من دستور جمهورية الجبل الأسود تنص على “يحق لكل فرد الوصول إلى المعلومات التي تحتفظ بها سلطات الدولة والمنظمات التي تمارس السلطة العامة”.
من أهم المحاور التي تتناولها المواد الدستورية الخاصة بحق الوصول إلى المعلومات هو نطاق تفعيل هذه الحقوق. ففي دستور كينيا (2010) امتد حق الوصول إلى المعلومات لا ليشمل السلطات العامة فقط، بل ليشمل أيضا “المعلومات التي يحتفظ بها أي شخص إذا كانت مطلوبة لممارسة حق أساسي آخر في الحريات أو حمايته” (المادة 35. 1. أ) وتلزم الدولة بالنشر والإعلان عن أي معلومة مهمة من شأنها التأثير على الأمة” (المادة 35. 3). ويمثل الدستور البولندي (1997) مثالا قويا في توسيع نطاق الالتزام ليمتد خارج نطاق السلطات العامة، للأفراد أو المجموعات الذين يؤدون واجبات لصالح السلطات العامة:
يحق للمواطن الوصول إلى المعلومات الخاصة بالنشاطات التي تقوم بها أجهزة السلطة العامة بالإضافة إلى الأشخاص الذين يشغلون مناصب عامة. ويشمل هذا الحق تلقي المعلومات عن أنشطة الأجهزة المهنية أو الاقتصادية المستقلة أو الوحدات التنظيمية المتعلقة بمجال أداء واجبات السلطات العامة أو إدارة الأصول الشعبية أو ممتلكات خزينة الدولة.
واحدة من أهم المطالبات المثيرة للانتباه بشأن حق الوصول إلى المعلومات هو الحق في قانون الإعلام في الهند الذي تم بدأ سريانه عام 2005. وبعد عامين من نفاذه، تم تقديم أكثر من مليوني طلب للحصول على معلومات، وكانت هذه المعلومات هي الأساس في حركة مكافحة الفساد التي انتشرت هناك انتشاراً واسعاً. وعلى الرغم من أنها ليست مادة دستورية، نراها مثالاً قوياً يتبين فيه كيف تصبح الفرص المتساوية للحصول على المعلومات أداة تستخدمها الفئات المهمشة للحصول على حقوقهم.
نحو دستور أفضل:
كما أوضحت الأمثلة سالفة الذكر، يوجد العديد من الطرق لضمان حق الوصول إلى المعلومات من خلال مبادرات سياسية جديدة. يمكن أن نضع النقاط القادمة كأساس للحصول على هذا الحق:
المصادر
كارانيكولاس، مايكل وتوبي مندل (2012) تحليل أشكال الحماية الدستورية لحق الوصول إلى المعلومات. مركز القانون والديمقراطية.
مذكرة الإرشادات العملية لحق الوصول إلى المعلومات. برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، مكتب وضع السياسات، فريق الحوكمة الديمقراطية.
1. دعم تكنولوجيا المعلومات، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، جمعية حرية الفكر والتعبير، نجلاء رزق، خالد فهمي، لينا عطا الله “مشروع قانون حرية تداول المعلومات فبراير 2012↩
الصورة المختارة من فيديو حرية تداول المعلومات.
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments
Trackbacks