شريط ممتد ضيق من الأراضي الزراعية الخضراء شرق نيل محافظة المنيا، محصور ما بين النيل والجبل، على امتداده تتناثر قرى تختلف في حجمها وأنشطة سكانها الاقتصادية ولكن يجمع بينها الحرمان من المرافق العامة و تجاهل الدولة وضيق الرزق. أثر العمل الذي قادته مؤسسة “الحياة الأفضل“ الأهلية في مجال تحسين السكن واضح على العديد من هذه القرى الفقيرة؛ يشيد به الأهالي ويحصد الجوائز الدولية وتتحدث عنه الحوارات التليفزيونية.
بزيارة القرى التي تعمل معها المؤسسة، تتضح سمات الفقر منذ البداية من حالة المساكن ومظهر السكان المتواضعَيْن، يعمل أغلب سكان القرى في الصيد والزراعة والتحجير، يجمع بين حرفهم الموسمية والعمل الشاق والعائد المادي المحدود للغاية. يتحدث الأهالي عن تحسن الأوضاع عما سبق ، بينما تظهر أوضاع العمران متردية للغاية، رغم الجهود الحكومية والأهلية في السنوات الأخيرة لتحسين معيشة المواطنين في قرى المنيا بعد أن احتلت ٣١٠ قرية منها ترتيبًا على قائمة القرى الألف الأكثر فقرًا على مستوى الجمهورية في ٢٠٠٧. يبقى الوضع بالغ التعقيد والجهود متواضعة وتفتقر لحسن التخطيط والمتابعة، مما يخلق احتياجًا متجددًا لبرامج جادة تعنى بتوفير الحقوق الأساسية لهذه المجتمعات المحرومة. في هذا السياق نشطت مؤسسة “الحياة الأفضل” من خلال برنامجها “حركة السكن المحلية” في مجال اسكان الفقراء في ريف شرق النيل، بدأت بتقديم خدمات تحسين السكن وإمداد المرافق بشكل مباشر، ثم تطورت لتدرب وتنظم الأهالي وتخلق الشبكات بين المجموعات المحلية للدفاع عن الحقوق ومساءلة الجهات الحكومية.
في إطار برنامج “حركة السكن المحلية”، اجتمع أهالي القرى والمعماريون العاملون في البرنامج في ورشة عمل تشاركية لبناء نموذج مصغر ماكيت لمنزل الاحلام. لم يكن خيال الفقراء مكلفًا، مجرد منزلٍ بسيطٍ من طابقين يحوي من الغرف ما يستوعب أفراد الأسرة وأنشطتهم الحياتية المتعددة، كفراغ خاص للمعيشة وفراغات للنوم، وزريبة منفصلة للبهائم. عرض الماكيت في احتفالية يوم السكن العالمي ٢٠١٢ التي حضرها المسئولين من المحافظة واستقبلهم الأهالي بكتابات على الحائط، “نفسي أشرب مية نضيفة”، “عايز ابني وبنتي يذاكروا بأمان”، “عايز صرف صحي”،”دور يحمينا من المطر والبرودة”، وغيرها الكثير من الأمنيات التي تدلل على مدى إلحاح احتياجات الأهالي وسوء أوضاع الاسكان في قراهم. أنتجت “الحياة الأفضل” ضمن برنامجها وثائقيًا تحدث فيه الأهالي أبطال الفيلم عن أحلامهم المستعصية في مساكن تراعي كرامتهم الانسانية. أطلق صناع الفيلم عليه اسم “أحلام عادية“.
الوضع قبل المبادرة
حسب رصد المؤسسة في بدايات عملها فقد كانت أغلب مساكن القرى الفقيرة آنذاك محرومة تمامًا من الوصول لشبكات مياه الشرب والصرف الصحي والكهرباء، و عانى السكان من مخاطر تهدد سلامة وصحة أفراد الأسر حيث المساكن قديمة من الطوب النيء وأسقفها ونوافذها متهالكة، لا يتم صيانتها بالشكل الكافي ولا توفر الحماية من التقلبات الجوية والحشرات وغيرها من مسببات الامراض. كما تفتقر لوجود مياه داخل المنزل أو مرحاض صحي ويضطر ساكنيها للخروج خارج المنزل وقطع مسافات طويلة أكثر من مرة يوميًا للحصول على الماء أو لقضاء حاجتهم، وكنتيجة لذلك عانت أغلب المجتمعات الريفية الفقيرة في شرق النيل من مشكلات صحية جسيمة وفقدت إحساسها بالأمان والعيش الكريم. بالإضافة لهذه المشكلات العامة عانت بعض القرى على وجه الخصوص من أخطار أكبر بحكم موقعها؛ كالقرى الواقعة بالقرب من مواقع تفجير بمحاجر الجبل وما تسببه من تصدعات تحتاج للترميم، وأخرى تحيا في حالة دائمة من عدم استقرار الحيازة والتهديد بالإخلاء لعدم امتلاكهم للأراضي بشكل رسمي وتبعيتها لجهات مركزية كالأوقاف، وقرىً تم بناء مصنع أسمنت ملوث ملاصق لها، وغيرها تم بناء أبراج كهرباء ضغط عالي بجانب المساكن منعت قاطنيها من بناء أدوار عليا وهددت سلامتهم وحياتهم.
بداية الفكرة وتطورها
في بداية التسعينيات قرر ابن قرية نزلة الشرفاء ماهر بشرى، ومعه مجموعة من أبناء قرى شرق النيل المتعلمين، إنشاء جمعية لتنمية مجتمعات شرق النيل المهمشة الفقيرة وتحسين ظروف معيشتهم. وبعد محاولات عدة نجحوا في تسجيل “مؤسسة الحياة الأفضل للتنمية الشاملة” بالمنيا كجمعية أهلية غير هادفة للربح في ١٩٩٥. يشغل بشرى حاليًا منصبي رئيس مجلس الأمناء والمدير التنفيذي للمؤسسة.
الحق في مسكنٍ ملائمٍ كان من أهم أولويات العمل لدى المؤسسة، آنذاك لم يكن هناك أي جمعيات أخرى تعمل في مجال الاسكان في المحافظة وخاصةً في نطاق قرى شرق النيل. البداية كانت بتدخلات بسيطة في قرية” سوادة” شديدة الفقر، تلتها تدخلات في قرية “نزلة الشرفاء”، ثم ظهرت الحاجة لبناء برنامج شامل للعمل على حقوق السكن. صمم المشروع الأول الذي تم تنفيذه من خلال “برنامج حركة السكن المحلية” استجابة لنتائج دراسة تقييم الاحتياجات التي قامت بها المؤسسة في ١٩٩٧ لعدد من القرى المستهدفة على الضفة الشرقية للنيل، حيث رصدت الدراسة ٣٠٠٠ مسكن بدون مياه أو صرف صحي. كانت أولى استراتيجيات العمل التي تبنتها المؤسسة هي تقديم خدمات مباشرة للمستهدفين من ذوي الاحتياج، فقاموا بتركيب مواسير المياه والصنابير والمراحيض داخل المساكن في شكل منح للأسر. في عام ١٩٩٨ اتجهت المؤسسة للعمل على تحسين المساكن بشكل أوسع، كإصلاح الشبابيك والأبواب والأسقف ثم تطورت التدخلات لتشمل ترميم المساكن المتصدعة والقديمة ، ثم الهدم وإعادة البناء في نفس المكان وبناء غرف إضافية أو أدوار عليا لتلبية احتياج الأسرة في النمو والتوسع. وخلال ٢٠ عامًا هي فترة عمل المؤسسة منذ إنشائها وحتى الآن تطور “برنامج حركة السكن المحلية” باستمرار في طبيعة مشروعاته والخدمات التي يقدمها ليتعامل المشكلات المختلفة لمجتمعات شرق النيل.
مكونات برنامج حركة السكن المحلية
يعتمد برنامج حركة السكن المحلية على رفع احتياجات السكان في المجتمعات المحلية بقرى شرق النيل، وتصمم مشاريعه بناءًا على هذا الرفع وبمشاركة السكان أنفسهم. يتم تنفيذ المشروعات داخل القرى من خلال أهالي القرية وباشراف من منسقي البرنامج. نظرًا لتبني المؤسسة لنهج التنمية المرتكزة على الحقوق منذ عام ٢٠٠٠ فقد ربطت أنشطتها ب معايير السكن الملائم من المنظور الحقوقي وفقًا للعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، فعملت على الوصول للمرافق الأساسية والأمان الإنشائي والقابلية للسكنى و الموائمة الثقافية و أمن الحيازة، من خلال مشاريع متنوعة في أهدافها وطبيعتها:
- مشروع تحسين المساكن: وهو المشروع الاساسي والأكبر للبرنامج، ويتولى هذا المشروع تمويل عملية تحسين المسكن في شكل قروض متناهية الصغر، ومتابعتها منذ البداية و حتى انتهاء العمل. يقوم بتدريب عمال البناء في القرية وأصحاب المساكن ليتشاركوا في البناء، ويقوم المهندسون العاملون بالمشروع بمتابعة مراحل البناء والإشراف عليها للتأكد من أن البناء يتم بمعايير الصحة والسلامة البيئية ومن أن الأموال المقرضة قد يتم صرفها على الغرض المتفق عليه وفق أولويات الأسرة والبرنامج معاً
- مشروع توصيل مياه نقية وصرف صحي للمساكن: وقد بدأ البرنامج بهذا المشروع واستمر في العمل فيه بكثافة خلال العشر سنوات الأولى حيث اعتبر الاحتياج الأساسي الملح لهذه المجتمعات، ومازال المشروع يعمل الى الآن على إمداد المساكن المحرومة بالمياه والمراحيض الصحية. تعاون المشروع مع الجهات الحكومية في أكثر من قرية فتولت الحكومة توصيل شبكات الصرف الصحي والمياه العامة الى القرى، وتولت “الحياة الأفضل” توصيلها للمنازل وتركيب الصنابير والمراحيض الصحية داخلها.
- إنشاء نظام تمويل ملائم ومستدام: حيث أنشأت المؤسسة صندوق إقراض دوار (Revolving Loan Fund) ١ كنظام تمويل يمكّن سكان القرى من الإقتراض لأغراض تطوير مساكنهم الحالية أو هدمها وبناء مساكن جديدة إذا لزم الأمر.
- الدعم القانوني وتنظيم المجتمعات: تعمل وحدة الدعم القانوني مع المجتمعات التي تتعرض لانتهاكات. تساهم في تعريفهم بحقوقهم القانونية وتساعدهم على تنظيم أنفسهم ومناقشة مشكلاتهم بشكل جماعي للوصول لحلول والتحاور مع المسئولين بشأنها. كما تتولى رفع دعاوى قضائية ومساندة الأهالي في تقديم شكاوى للمسئولين الحكوميين للمطالبة بحقوقهم في عمران آمن من ناحية الحيازة ومن الناحية الإنشائيةأو في حالة وجود خطر مهدد للحياة كأبراج الضغط العالي.
- برامج للتوعية والتوثيق لبناء ذاكرة مؤسسية ومجتمعية: تصدر المؤسسة مواد إعلامية لتوثيق أوضاع السكن في القرى وتوثيق جهود الأهالي الذاتية لتطوير مجتمعاتهم ومساكنهم بمساعدة المؤسسة، وقصص النجاح، ومواد تدريبية وتوعوية. تتنوع هذه الإصدارات ما بين الكتيبات والأفلام الوثائقية والأدلة الارشادية لتدريب وبناء قدرات المجتمعات المحلية، مثال دليلي معايير التصميم والبناء في المناطق الريفية، وأدلة تدريبات مهارات الإدارة والتنظيم، وكتيبات تستخدم رسوم الكاريكاتير للتوعية بحقوق السكن وغيرها.
مصادر تمويل منح وقروض تحسين مساكن الفقراء
اعتمد برنامج حركة السكن المحلية في تمويل تحسين المساكن على مجموعة من المنح والقروض التي تحصل عليها “الحياة الأفضل” وتعيد إقراضها للفقراء في شكل قروض متناهية الصغر، تبدأ من ألف جنيه وبحد أقصى ٨ آلاف، يقترضها أهالي قرى شرق النيل من المؤسسة بوصولات أمانة وبدون ضمانات تقريبًا سوى بطاقة الرقم القومي للمقترض وضمانه من أحد أهالي القرية، ويسددونها على أقساط موائمة لدخولهم على فترة زمنية من ثلاث إلى خمس سنوات، وبفائدة تتراوح من ٨٪ إلى ١٢٪ تحددها المؤسسة لتغطية التضخم ٢ وكذلك المصاريف الإدارية والديون المشكوك في تحصيلها. كما تغطي المؤسسة تكلفة بعض الأعمال التي تلبي احتياج أساسي للحالات الأكثر فقرًا في القرى كتوصيل المياه للمساكن وتركيب مراحيض صحية وبعض أعمال الترميمات للمساكن التي تواجه تهديدًا بالانهيار، وتكون هذه الأعمال في شكل منحة للأسرة لا تسترد.
حصل البرنامج في بدايته على منحة مقدمة من منظمة “أوكسفام نوفيب” الهولندية قدرها ٦٠٫٠٠٠ دولار أمريكي، كانت المحرك الأساسي الأول للمشروع. تلاها قرض من منظمة “الموئل من أجل الإنسانية” قدره ٦٨٫٥٠٠ دولار أمريكي تم تسديده على خمس سنوات. ثم تعددت المنح والقروض من جهات مانحة دولية مختلفة. وكان لمؤسسة الحياة الأفضل تجربة فريدة ورائدة في المجال بالتعاون مع القطاع الخاص المصري لتمويل قروض تحسين مساكن الفقراء، حيث حصلت المؤسسة على منحة من شركة “المجموعة المالية المصرية – هيرميس”، ساعدتها في تمويل مشروعين كبيرين أحدها لتوصيل المياه وأحدها لتحسين السكن. أما حاليًا فيعمل برنامج حركة السكن المحلية بدعم من مؤسسة “دروسوس” السويسرية لتمويل قروض لتركيب سخانات تعمل بالطاقة الشمسية ترويجًا لاستخدام مصادر الطاقة النظيفة والمتجددة.
التحديات والمعوقات
واجهت “الحياة الأفضل” في كثير من الأحيان صعوبة شديدة في الحصول على تمويل لمشروعات تحسين مساكن الفقراء، إما لأسباب تتعلق بالمناخ الاقتصادي العالمي والمحلي وصعوبة اقناع الجهات المانحة بإعطاء أولوية لتمويل مشروعات البرنامج، أو أخرى تتعلق بالنظام السياسي المصري وتضييقه على عمل منظمات المجتمع المدني، ففضلًا عن غياب المهنية والشفافية في الأجهزة المحلية والإجراءات البيروقراطية الطويلة وتعسف بعض الموظفين الحكوميين وغيرها من العوامل التي تؤدي في الأغلب لتأخر التصريحات والموافقات على المشاريع، فان قانون الجمعيات الأهلية ٨٤ لعام ٢٠٠٢ أعطى للجهات الحكومية سلطات كبيرة في رفض المشاريع المقدمة من الجمعية أو حجز الأموال الممنوحة لها لفترات قد تتعدى الزمن المحدد للمشروع، وإجراءات تعسفية أخرى تعكس عدم استيعاب البيئة التشريعية المصرية لمجال “التمويل الأصغر” وخاصةً في مجال السكن، وحدها من قدرة جمعياته على التوسع في نشاطها ٣. وكنتيجة لهذه العوامل اضطرت المؤسسة لتغيير شكل تسجيلها القانوني خلال تاريخها ما بين الشركة والجمعية الأهلية وتوفيق مشاريعها للتأقلم مع الأوضاع العامة وما تفرضه من محددات للعمل الأهلي.
لاحظنا أيضًا أنه رغم محاولة المؤسسة جاهدة أن تعمل وفقًا لأولويات الأهالي وبناءًا على تقييم حقيقي لاحتياجاتهم، لكن تظل أولويات الجهات المانحة وبرامجها مؤثرة بشكل ما على اختيار المشروعات المنفذة وهو تحد يواجه جميع مشاريع التنمية في مصر بشكلٍ عام، الأهلية منها والحكومية على حدٍ سواء.
من أهم التحديات كذلك غياب استراتيجية حكومية تسعى بحق لضمان السكن الملائم لسكان ريف المنيا، مما يؤثر على فاعلية البرنامج، فبرنامج حركة السكن المحلية يهدف في الأساس لإحداث تغيير، وهو ما يصعب للغاية دون تعاون المؤسسات الحكومية؛ فعلى سبيل المثال يستطيع البرنامج تركيب مرحاض صحي داخل المنزل ولكن لا يستطيع إمداد المنطقة بشبكة صرف صحي فيعتمد في حالات كثيرة على الطرنشات التي يمثل تفريغها وصيانتها عبئًا ثقيلا على الأسر الفقيرة. مثال آخر، في مسألة الحيازة، حيث تعنت بعض الأجهزة المركزية كالأوقاف في ضمان حقوق الأهالي في الحيازة وقصور التشريع المصري في هذه الجزئية مما يمثل تحدٍ كبيرٍ للمشروع وعقبة أمام تحقيق أهدافه. أما أبراج الضغط العالي وتفجيرات المحاجر ومصانع الأسمنت الملوثة فجميعها مخاطر حديثة وافدة على حياة أهالي القرى الذي يسكنون قراهم منذ أجيال لقرون عدة ونتيجة لخلل ما في أولويات الأجهزة الحكومية تم التصريح لهذه الأنشطة بالتواجد بجانبهم وتهديد حياتهم دون أي اعتبار لحقوقهم.
النتائج والانجازات
نتيجة لمنهجية العمل التشاركية، نجح المشروع في ادراك احتياجات المجتمعات المحلية والتفاعل معها. قدم المشروع نموذج لتطوير المسكن الريفي في المكان (In-situ Upgrading) ٤ ليوفر حياة كريمة لأصحابه، ورغم محدودية الموارد ومساحات الحركة المتاحة لمؤسسة أهلية إلا أن مشروع تحسين مساكن الفقراء تمكن خلال عمله بقرى محافظة المنيا في العقدين الأخيرين من إصلاح وتحسين ما يزيد عن ١٠٠٠ مسكن، وساهم في بناء ما يزيد عن ال ٥٥٠ من المساكن الجديدة في مكان القديمة المتهالكة، و قام بامداد ما يزيد عن ٧٠٠٠ مسكن بمياه الشرب النقية ومراحيض صحية داخل المنزل، في أكثر من ٢٠ قرية فقيرة.
كما نفذت المؤسسة مشاريع ناجحة داخل المساكن لتحسين ظروف المعيشة للأسر الفقيرة، كتطوير الأفران الريفية التقليدية لتناسب أكثر معايير الصحة والأمان البيئي، وتوسعة المساكن لاستيعاب نمو الأسرة، إلى تزويد المساكن بسخانات الطاقة الشمسية.
نجح المشروع أيضًا في تنظيم المجتمعات المحلية حيث ساهم فريقه في تأسيس العديد من الجمعيات والروابط لعمال المحاجر والصيادين والفلاحين والنساء وغيرهم من سكان القرى، أصبحت جميعها تتبنى تحسين ظروف المعيشة والإسكان في قراها. ونجحت في فضح ممارسات غير قانونية لأصحاب أعمال مثال مصنع الأسمنت بجانب قرية بني سالم، الذي أدى تحرك الاهالي و”الحياة الأفضل” ضده لحث الأجهزة الحكومية لتطبيق القانون وإجبار إدارته على توفير وسائل الحماية البيئية وتقليل الضرر البيئي المهدد لصحة الأهالي .
وكنتيجة لعمل المؤسسة لسنوات طويلة وكسبها لثقة ودعم المجتمعات المحلية وبنائها لشبكة من الجمعيات تعمل داخل كل قرية من قرى المشروع، نجحت المؤسسة والأهالي عن طريق حملات الضغط في التأثير على القرار الحكومي وتحسين وتحفيز الأداء الحكومي بشكل مباشر وغير مباشر فيما يخص الإدارة المحلية وتحديد أولويات التنمية. فبعد حملات قام بها الأهالي بدعم من المؤسسة تم رصف طرق وبناء مدارس ومنشآت صحية لقرى بعينها نتيجة تنظيمها ورفع مطالبها للأجهزة المحلية. كما نجحوا في الحصول على وعود من مسئولين حكوميين بعدم إخلاء الأهالي قسريًا من قرية نزلة حسين التي تعود ملكية أراضيها رسميًا للأوقاف ومازالت تسعى لتقنين أوضاعهم وضمان حيازتهم بشكل قانوني. ومن أهم قصص النجاح للمؤسسة في هذا المجال، الحملة المحلية التي قادتها مع أهالي قرية نزلة عبيد لنقل أبراج الضغط العالي من أراضي القرية وتم نقلها بالفعل لخارج الحزام العمراني بعيدًا عن المساكن.
الاستدامة
الاستدامة الاجتماعية
لعب المشروع دورًا هامًا وأساسيًا في إتاحة الحد الأدنى من الفرص لمجتمعات محرومة تمامًا من أبسط الحقوق؛ فما وفره نظام التمويل الذي يتيح إمكانية الإقتراض لهذه الأسر لم يكن مجرد أعمال تحسين معمارية–مادية-، بل كانت نقلة نوعية في جودة الحياة لما يوفره المنزل النظيف الملائم من وجاهة اجتماعية واحساس بالأمان وصحة جيدة. فرغم أن الأموال التي تقترضها هذه الأسر لا تعود عليها بارتفاع في دخلها الشهري المحدود -بل بالعكس تقتطع منه مبلغ قسط سداد القرض، إلا أن الطلب على القروض يزداد باستمرار ونسبة السداد تصل إلى ٩٥٪ في أغلب الأوقات. بالتأكيد ليس بإمكان مؤسسة واحدة أن تحقق العدالة في الوصول للموارد المالية وبخاصة إذا نظرنا للفجوة الضخمة ما بين مخصصات التنمية والإسكان للحضر ومثيلتها للريف، وقصر برامج الإقراض لخدمة المتمتعين بالمزايا الاقتصادية والاجتماعية، ولكن ما فعله المشروع أنه أتاح فرصة ولو ضئيلة للفقراء في المناطق المستهدفة للوصول لبعض الموارد المالية إن أرادوا، بل وأعطى الأولوية للأشد فقرًا وضعفًا، آخذًا في الاعتبار الأبعاد الجندرية للظلم الاجتماعي ومعاناة النساء في هذه المجتمعات بشكل خاص كونها المسئولة عن الأعمال المنزلية وتربية الأطفال وبالتالي الأكثر تضررًا من غياب المياه والصرف الصحي وتهالك المسكن وقذارته، وكونها كذلك الأكثر تعرضًا للعنف وقابلية للقهر ، فعلى سبيل المثال كانت النساء في هذه القرى تحبس المخلفات والسموم في جسدها طوال النهار انتظارًا لظلمة الليل لتخرج لقضاء حاجتها، مما كان يعرضها لمخاطر صحية كثيرة فضلًا عن امكانية التعرض للاعتداءات أحيانًا.
من أهم العوامل أيضًا بذل القائمين على المشروع للجهد في دراسة طبيعة احتياجات السكان الفراغية من المسكن بدراسة توزيع أنشطتهم والعوامل الثقافية والاجتماعية التي تؤثر في بناء مسكنهم. فساعدوهم على بناء مساكن جديدة صحية وآمنة تلبي احتياجاتهم وتحترم ثقافتهم وتحافظ على تماسك علاقاتهم الاجتماعية.
أما إذا قيمنا أثر المشروع على خلق تنظيمات ونظم اجتماعية تعمل على تماسك المجتمع وتبنيه لقضاياه وتحسين مستوى التواصل مع المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، فقد تبنى برنامج حركة السكن المحلية تنظيم المجتمعات وتمكينها من تنفيذ المشروعات بأيدي المجتمع القروي ذاته كهدف أساسي. ومع مرور الوقت واكتساب الخبرات كون المتطوعون تنظيماتهم الخاصة داخل القرى للعمل على تنمية القرية والتواصل مع المسئولين الحكوميين، بل وتحولت بعض هذه التنظيمات للأشكال الرسمية كالجمعيات الأهلية والنقابات وغيرها. كما أتاحت استراتيجية التطوير في المكان الحفاظ على العلاقات الاجتماعية للأسر وبعضها مما حافظ على تماسك المجتمع.
ومن نجاحات المشروع في تحقيق الاستدامة الاجتماعية أنه رسخ قناعة الأهالي بحقوقهم في ملكية أراضيهم التي يعيشون فوقها منذ أجيال، ورفع وعي الأجهزة الحكومية قبل الريفيين أنفسهم بمدى خطورة تهديد الحيازة وسلامة الأفراد والممتلكات على السلم الاجتماعي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية في الاقليم.
الاستدامة الاقتصادية
كان للمشروع دورًا بارزًا في تشجيع الأهالي على استخدام الحجر الجيري في البناء والذي يتوافر في المحافظة بكثرة ويتميز بانخفاض سعره نسبيًا حيث لا يحمل تكلفة النقل أو أي تكاليف إضافية، وكان لذلك أبلغ الأثر في انعاش السوق المحلية. ولتحقيق الفاعلية قام مهندسو البرنامج، مع الاستعانة بخبرات مختصين، بتدريب أصحاب المساكن والبنائيين المحليين على طرق البناء بحيث تشاركوا في بناء المساكن دون الحاجة لتأجير عمالة. مما قلل من التكلفة حوالي ٥٠٪ أو يزيد في بعض الأحيان. كما مكنت هذه الممارسة عدد أكبر من أفراد المجتمع المحلي من أدوات البناء والصيانة وتعديل المباني للقيام بأعمال تحسين مسكنهم بانفسهم في المستقبل كلما لزم الأمر ، كما تم تدريب متطوعين من القرى على مهارات الإدارة والميزانيات ومتابعة تنفيذ المشروعات وتقييمها، وبالتالي فإن اكتساب هذا الطيف المتنوع من الخبرات والمعارف المتراكمة أتاح لسكان القرى فرص أكثر للتطور المهني وفتح لهم مجالات للعمل وكسب الرزق في مواسم تعطل أعمالهم الأساسية، بما في ذلك من مراعاة لاستدامة المورد المادي والبشري معًا.
من العوامل الهامة والفعالة أيضًا، دمج مكون تحسين المسكن في البرامج الأخرى التي تعمل عليها “الحياة الأفضل”، فيكون قرض تحسين السكن جزء من مشروع أشمل لتنمية حياة المواطن ورفع دخله.
الاستدامة البيئية
كما سبق أن أشرنا، عمل المشروع على تشجيع السكان على البناء بالمواد المتوفرة في البيئة المحلية وهي الحجر الجيري والرمل، فلم يكن الحجر الجيري وقت بدأ المشروع رائجًا وأصبح الآن المادة الأكثر استخدامًا في البناء بعد استخدامه وانتشاره تدريجيًا. وبالإطلاع على تقرير إستشاريين إستعانت بهم المؤسسة لتطوير عملها، نجد أن المؤسسة قد أولت اهتمامًا خاصًا بالجوانب البيئية خلال عملها وداومت على التقييم والاستعانة بالخبرات والتطوير لتحقيق الاستدامة.
ساهم المشروع أيضًا بالتدريب على طرق التدخل والتصميم والبناء للمسكن في تمكين المجتمع المحلي من أدوات التحكم في بيئتهم المبنية وتحسينها بأسس صحيحة وفقًا للمعايير البيئية والصحية كمراعاة فتحات التهوية ودخول الشمس وغيرها من المعايير. كما أن وصول مياه الشرب النقية وتركيب مراحيض داخل المساكن ساهما في تقليل نسبة الأمراض داخل الأسر وبالأخص الأطفال الذين كانوا وما زالوا يعانون من أمراض الكبد والجفاف والجهاز الهضمي وغيرها.
وانعكاسًا لفهم عميق لأبعاد الاستدامة البيئة طورت الحياة الأفضل مشاريعها لتدعم وسائل الطاقة النظيفة والمتجددة، حيث يروج المشروع الحالي لاستخدام الطاقة الشمسية في توليد الحرارة، وكمرحلة أولى نجح المشروع في قرية واحدة في تزويد ٤٠ منزل بسخانات الطاقة الشمسية ويخطط المشروع للتوسع في قرى أخرى وبناء مصنع تجميع للسخانات داخل المنيا لتقليل التكلفة على المستهلك.
التقدير ونشر التجربة
حظى برنامج “حركة السكن المحلية” للحياة الأفضل بتقدير واسع على المستوى الدولي، فقد اعتبرته الجهات المانحة مثالًا يحتذى به؛ فنظمت مؤسسة فورد الأمريكية برنامج تبادل خبرات بينه وبين منظمات من تنزانيا وجنوب أفريقيا والفلبين لنقل تجربته إلى مجتمعاتهم. كما قامت منظمات دولية عديدة تعنى بحقوق السكن بالإشادة به ونشر تجربته، كالتحالف الدولي للموئل (Habitat International Coalition) والشبكة العالمية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (ESCR-Net). تم توثيق عمل البرنامج أيضًا ونشره كممارسات فضلى عام ٢٠٠٨ من برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية ( (UN-Habitat.
وفي عام ٢٠١٠ حصل البرنامج على جائزة الموئل العالمية (World Habitat Award)، التي تمنحها سنويًا مؤسسة البناء والإسكان الاجتماعي البريطانية لمشروعين من كل دول العالم يقدمان حلولًا مبتكرة ومستدامة لتحديات الاسكان في مجتمعاتهما المحلية. بجانب مبلغ ١٠ آلاف يورو، تضمنت الجائزة نشر التجربة الناجحة من خلال زيارة ميدانية للمنيا لفريق من المختصين لمعاينة عمل البرنامج على أرض الواقع والتعلم منه، ضمت الزيارة خبراء وممارسين في مجالات الاسكان والبناء والتنمية من بنجلاديش وأفغانستان والتشيلي وباكستان والفلبين والأردن وفلسطين ومصر، كما ضمت نائب مساعد وزير الأشغال العامة والطرق للاسكان والتطوير الحضري باليمن آنذاك.
الخطط المستقبلية للمؤسسة وفرص التكرار محليًا
تشمل أهداف المؤسسة للفترة من ٢٠١٣ الى ٢٠١٧، تمكين ٥٠٠٠ أسرة من الحصول على مساكن لائقة وبأسعار معقولة من خلال التحسين أو إعادة البناء، حققت بالفعل عدد كبير منها. كذلك العمل مع ١٠٠ من المجتمعات الريفية المحلية من خلال التدريب والتوعية بالحقوق وحثهم على التنظيم والمشاركة المجتمعية في إدارة عمرانهم. في النهاية، تبدو الأهداف المخططة قابلة للتحقق، فمؤسسة “الحياة الأفضل” مؤسسة كبيرة من حيث حجم النشاط ورأس المال، يعمل لتنفيذ مشاريعها حاليًا أكثر من ٥٠ موظف و ١٥٠ متطوع، بخلاف شبكة الجمعيات والروابط المحلية المتصلة بها، كما تتضمن خطط المؤسسة التعاون مع الجهات الحكومية كالوحدات المحلية وهيئات المياه والصرف الصحي لتحقيق أهدافها.
أما عن تكرار التجربة، فقد أثبت مشروع “تحسين مساكن الفقراء”، من وجهة نظر القائمين عليه، أنه يقابل احتياج لدى فئة كبيرة من سكان المجتمعات الريفية المهملة في المنيا، بدليل اتساع نشاط المشروع ليشمل عدد أكبر من أعمال التحسينات ليغطي شريحة أكبر من المنتفعين، كما اتسع النطاق الجغرافي له على طول شريط شرق النيل وامتد ليشمل بعض قرى غرب النيل كذلك. ولكن تظل الفجوة ما بين الطلب المتزايد على قروض تحسين المساكن ومحدودية موارد المؤسسة المالية حافزًا لأصحاب الفكرة على نشرها والدعوة لتكرارها وتبني مؤسسات أكثر لها، فما زال مجال تمويل اسكان الفقراء محدودًا ومقيدًا في مصر عامةً وفي الصعيد خاصةً، وإن وجد فان مؤسسات التمويل الأصغر غالبًا ما تكتفي بتقديم القروض واستردادها–بفوائد مبالغ فيها أحيانًا- دون مراقبة جودة المساكن المنفذة ولا تعبأ بجوانب معقولية الأسعار والتكلفة على الفقراء وتوفير المرافق والموائمة الثقافية والبيئية . لذا تولي مؤسسة الحياة الأفضل اهتمامًا أساسيًا بتوثيق تجاربها بوسائل متنوعة كما ذكرنا، لنشر أهداف البرنامج والتشجيع والدعم لتكرار التجربة من خلال مؤسسات تنموية أخرى مع مجتمعات محلية أكثر في المنيا وكل المحافظات.
رؤية تضامن
تتمثل أهمية تجربة “الحياة الأفضل” في تعامل المؤسسة مع تحديات الإسكان المحلية بشكل واقعي وبنظرة تنموية مستوعبة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع المحلي، فقد كانت ومازالت مجتمعات ريف المنيا والصعيد بشكلٍ عام تعاني من تبعات الفقر والحرمان والعزلة عن صناع القرار، ولهذا تحديدًا نهتم برصد تجربة ساعدت الآلاف من الأسر الفقيرة وطورت اسكانهم من خلال ممارسات مبتكرة-أو لنقل مغايرة لما تمارسه المؤسسات الحكومية- نابعة من دراسة جادة للإحتياجات والموارد وكيفية استغلال الثانية لتوفير الأولى بأقصى كفاءة ممكنة. ولوضع ما تقوم به مؤسسة الحياة الأفضل في سياقه سنقوم بعرض طبيعة أزمة الإسكان التي تعاني منها هذه المجتمعات وحصة مواطنيها من الموارد المخصصة للإسكان في المحافظة مقارنةً بالحضر، والبدائل المتاحة للحلول من حيث موقع المساكن ونظام التمويل المتبع.
قرى المنيا على خارطة استثمارات الاسكان الحكومية
“تأتي قضية العدالة الاجتماعية من أهم الأولويات التي تسعى الدولة بكل مؤسساتها لتحقيقها. وتتمثل أهم دعائم تحقيق العدالة الاجتماعية، في ضمان حصول جميع المواطنين على الخدمات الأساسية في أي مكان في الدولة بدون تمييز ما بين المحافظات الحضرية والمحافظات الحدودية ومحافظات الوجهين البحري والقبلي، أو داخل المحافظة الواحدة ما بين حضرها وريفها أو ما بين مراكزها ومدنها وقراها.” افتتاحية دليل المواطن للخطة الاستثمارية للعام المالي ٢٠١٤/٢٠١٥ الصادر عن وزارة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري.
نتفق على أن عدالة توزيع موارد الدولة هي المدخل الأساسي لتحقيق العدالة الاجتماعية و الاستدامة بمفهومها الواسع. فما هي خطط الحكومة المصرية لضمان الحقوق الأساسية في السكن والمرافق لجميع المواطنين دون تمييز؟ وهل يملك سكان الريف المصري وبخاصة في الصعيد الحد الأدنى من هذه الحقوق؟ كيف تنعكس هذه الديباجة الجيدة بشكل عملي على خطة استثمارات الوزارات المختلفة ومجهوداتها للوصول لهذه الأهداف؟
قبل أن نستعرض بنود الخطة الاستثمارية للحكومة المصرية ونحلل دلالاتها، يجدر بنا في البداية استيعاب واقع ريف المنيا الذي نتحدث عنه٥، بمراجعة المصادر الحكومية سنجد أن المنيا محافظة ريفية بالدرجة الأولى، حيث يعيش ٣٫٦ مليون مواطن في المناطق الريفية من إجمالي ٤٫٥ مليون يعيشون في المنيا، أي ما يحقق نسبة ٨١٪ من إجمالي السكان. تقدر نسبة المشتغلين بالزراعة والصيد منهم–أي الذين ترتبط حياتهم وأنشطهم الاقتصادية ارتباط وثيق بسكنى القرية بنسبة ٤٧٪ من إجمالي سكان المحافظة، إذا أضفنا أفراد أسرهم الذين لا يعملون سنرى بوضوح حجم الشريحة السكانية المعتمدة على موقع سكنها في القرية في جميع جوانب حياتها. تقدر الإحصاءات أن ١٫٥ مليون من هؤلاء الريفيين بالمنيا من الفقراء، حتى ان ٣١٠ قرية من قراهم احتلت مكانة في قائمة حصر الألف قرية الأكثر فقرًا على مستوى الجمهورية عام ٢٠٠٧. أما إذا نظرنا لمؤشرات الفقر متعدد الأبعاد٦، سنلمس بوضوح مدى تردي أوضاع السكن في هذه قرى.
من البديهي إذن إذا كنا ننشد العدالة الاجتماعية أن تولي الإدارة المحلية أولوية التنمية وضمان حقوق السكن الملائم للمناطق التي تضم أغلبية السكان وتحوي فقرائها مستحقي الدعم، ولكننا في الواقع نجد أن الحكومة المصرية متمثلة في المحافظة ووزارة الاسكان تهتم بشكل واسع بالاسكان في المناطق الحضرية على حساب المناطق الريفية، حيث أن أكبر مشروع يتم في محافظة المنيا تحديدًا منذ أواخر الثمانينيات ويُضَخ به أغلب الاستثمارات الحكومية هو مدينة “المنيا الجديدة” ، وبحسب بياناتها المعلنة فان عدد سكانها لا يزيد عن ٤٠ ألف نسمة ( ٥ آلاف فقط بحسب مصادر حكومية أخرى)، وعدد السكان النهائي المستهدف لسكنى المدينة في عام ٢٠٥٠ هو ١٥٧ ألف نسمة -أي ما يمثل تقريبًا ٣٫٥ % من إجمالي السكان الحالي-، جميعهم من سكان الحضر بالطبع، إما سكان المدينة القديمة أو النازحين من الريف للمدينة، تم استثمار ما يقرب من ٢ مليار جنيه إلى الآن لبناء مساكنهم وتزويدها بالمرافق والخدمات وتشجير طرق مدينتهم المتطورة المأمولة خلال العقود الثلاث الأخيرة، فيما يلجأ ما يزيد عن ٣ مليون من سكان في القرى الموجودة بالفعل للجمعيات الأهلية والجهود الذاتية المتواضعة ليجدوا لأنفسهم مكانًا ضئيلًا في تطور التاريخ بتركيب مرحاض صحي وصنبور مياه داخل المنزل.
بالعودة إلى الخطة الاستثمارية للعام المالي الحالي نجد أن النصيب النسبي لوزارة الإسكان من الاستثمارات الموجهة إلى محافظة المنيا هو الأكبر بين كل الوزارات، حيث يصل إلى ٣٥.٥٪، بمبالغ تقدر ب ٥٢١ مليون جنيه، وتشير الخطة بشكل خاص إلى أهمية مشروعات الوزارة المتمثلة في البرنامج القومي للإسكان الإجتماعي. وبحسب البيانات المتوفرة من هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة عن برنامج الإسكان الإجتماعي في مدينة المنيا الجديدة نجد أن نصيب مشروعات الإسكان الإجتماعي المعلن عنها لا يزيد عن ٢٫٥٪ من المبالغ المخصصة من وزارة الإسكان، بالإضافة لهذا رصد فريق تضامن عمائر شبه مهجورة تندرج تحت الاسكان الاجتماعي في مناطق معزولة عن القرى، لم نستطع الحصول على بياناتها، ولكن علمنا من مسئول سابق في المحافظة أن مخصصات الاسكان الاجتماعي للمحافظة تذهب جميعها لبناء مشاريع الاسكان الممثلة في العمائر ولا يقع تحت نطاق اختصاصها تحسين جودة المساكن في القرى بأي شكل. السؤال الأهم هنا، ما هو نصيب فقراء القرى من هذه المخصصات وهل يمكن اعتبار مشاريع الاسكان الاجتماعي التي تتبناها وزارة الاسكان حل لأزمة السكن في قرى المنيا؟ هل تسعى الحكومة المصرية للتعامل مع الوضع الحالي للقرى الموجودة بالفعل؟
اسكانًا اجتماعيًا.. ؟
يتجلى عدم ملائمة منظومة الاسكان الاجتماعي القومية–مركزية التصميم- التي تتباناها الدولة في حالة محافظة ريفية كالمنيا بوضوح؛ حيث تخلق نماذج تكرارية موحدة لا تعكس مراعاةً للأنشطة الحياتية التي يقوم بها المواطن، وتستثمر الملايين في بنائها، دون التعامل مع التحديات المحلية الخاصة بالمحافظة وخصائصها الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية، فنجد أن الاسكان الاجتماعي في محافظة ٨١٪ من سكانها ريفيين يقتصر على عمائر متعددة الطوابق لا تناسب سكان الريف وأنشطتهم وتقع بعيدا عن مصادر رزقهم إما في المدينة الصحراوية الجديدة أو رقع متفرقة معزولة عن القرى. أما عن الموائمة الثقافية فلا تمت هذه العمائر لحياة الأهالي وثقافتهم وعلاقاتهم الاجتماعية بأي صلة من قريبٍ أو بعيد. فكانت النتيجة أن تُركت المساكن خاوية أو وزعت على غير المستهدفين من بنائها. وعلى جانب آخر فالحصول على وحدة في الاسكان الاجتماعي غالبًا ما تحكمه شروط التمويل العقاري التي يتطلب دخل ثابت وعمل رسمي وبالتالي يستبعد غالبية العمالة في قرى المنيا الفقيرة من صيادين وفلاحين وعمال محاجر لعدم موافاتهم لشروط وضمانات الاسكان الاجتماعي، الذي لايستهدف في حقيقة الأمر فئة الفقراء أو أصحاب الدخول الموسمية بأي حال، مما يستدعي اللجوء لأنظمة تمويل بديلة تناسب هذه الأشكال من الدخول.
التطوير في المكان والنظم المالية البديلة لحل أزمة تمويل مساكن الفقراء
لا شك في أن توفير الأموال اللازمة هو المشكلة الرئيسية في عملية توفير المسكن والتي صممت لأجلها نظم التمويل العقاري المختلفة. ويعد نظام التمويل الأصغر للسكن (Housing micro-finance) احد النظم المعمول بها حول العالم للتغلب على صعوبة الوصول للموارد المالية من المؤسسات المالية التقليدية -كالبنوك وشركات التمويل والرهن العقاري- لفئات متعددة من الفقراء والعاملين بالقطاع غير الرسمي وكذلك من يفتقدون أوراق ملكية أراضيهم ومساكنهم. ولجأ اليها الفقراء كبديل متاح نسبيًا، عوضّا عن الاعتماد على مدخراتهم الشخصية أو الاقتراض من الأفراد. نفذت برامج التمويل الأصغر وحققت أثرًا إيجابيًا على مناطق عدة في العالم، ولكن مع انتشارها وتعميمها٧ ودخول مؤسسات هادفهة للربح في المجال ظهرت آثار سلبية أثارت انتقادات واسعة ٨ وأصبح تقييم الأداة ككل محل جدال معتبر.
من جانبنا نرى أن أهمية السكن وحساسية وإلحاح المشكلات المتعلقة به، تستدعي أن تبذل كل الجهود الممكنة لتقليل أضرارها. فسوء أوضاع المسكن الحالية وعدم قابليته لاحتواء حياة صحية وآمنة لسكانه، أو النمو وازدياد عدد أفراد الأسرة، أو التطلع للترقي الاجتماعي، جميعها احتياجات ملحة يجهد المواطنين من أجل تلبيتها وإن دخلوا في دائرة ديون متتالية لأجل ذلك. ولا ننكر أنه في كثير من الحالات يكون هذا الحل مفضلًا لدى الأهالي –تركهم في أماكنهم واعطائهم الضمانات والوسائل التي تمكنهم من تحسين مساكنهم بأنفسهم – ، مما يدلل على استدامة وواقعية استراتيجية التطوير في المكان ونظم التمويل المرتبطة بها مقارنة بحلول أخرى تتبناها الحكومة ولا تحقق نتائج إيجابية. لذا فمن الممكن أن تلعب القروض الصغيرة دورًا هاماً في حل مشكلات السكن في كثير من المناطق المحرومة المتدهورة عمرانيًا، ولكن يجب أن يؤخذ في الاعتبار أن المسكن الجديد غير مدر للربح ولا يرتفع دخل الأسرة تلقائيًا بعد تحسن مسكنها، ولهذا نجد أن تجربة الحياة الأفضل ناجحة مقارنة بتجارب أخرى، لانها تعكس مراعاة للعوامل المختلفة للمشكلة وتتبع استراتيجية للتنمية الشاملة يتم الاقراض فيها ضمن حزمة من الإجراءات كالتدريب والمساعدة في البناء بتكاليف أقل وكفائة أعلى والاهتمام بالصيانة وتطوير مهن أصحاب المساكن.
أما إن كنا نتحدث عن استراتيجية عامة لحل أزمات الاسكان في مناطق كهذه، فلا يجب الاعتماد على التمويل الأصغر ورفع التوقعات منه باعتباره الوسيلة الأساسية لتحسين معيشة الفقراء ما لم يعاد النظر في السياسات الاقتصادية العامة بشكل جذري لتحقيق قدرًا من العدالة الاجتماعية والحماية لهم. فبالرغم من كون التمويل الأصغر يتيح للفقراء ما للأغنياء من إمكانية الوصول للموارد المالية وحرية الاختيار، الا أنه لا يزيل آثار الظلم الاجتماعي الواقع على الفقراء، فما زال الفقراء يتحملون عبأ التنمية بأنفسهم كاملًا دون الزام للدولة بدورها في تبني استراتيجيات متكاملة لتحسين مستوى المعيشة و حماية وتنمية مصادر الدخل لهذه المجتمعات وتوفير الخدمات والمرافق الأساسية لهم.
في النهاية نرى أن نجاح تجارب كتجربة “الحياة الأفضل” في قرى المنيا يعزز من امكانية اجتذاب القطاع الخاص والأهلي للدخول في مجال تمويل مساكن الفقراء، وهو ما يمثل مطلبًا واحتياجًا ملحًا لفئات واسعة من ذوي المساكن المتدهورة. ونأمل أن تواكب التشريعات والسياسات العامة التحديات التي يفرضها تعميم أداة ذات حدين كهذه باتخاذ تدابير تضمن عائدًا ايجابيًا على المجتمعات المحلية الفقيرة، حيث يتوفر احتياج الفئات المنتفعة للوصول للموارد المالية وبنفس الدرجة احتياجها للحماية من الاستغلال، بالتحكم في سعر الفائدة ووضع محددات لعمل المؤسسات المقرضة ومراقبتها حتى لا تتحول لأداة للإفقار وليس التنمية. . والأهم، أن تعي المؤسسات العاملة في المجال دورها في عملية توفير المسكن كممول وميسر وموفر للدعم في عملية تصميم تشاركية متكاملة تعكس أولويات السكان وطموحاتهم في مسكنهم– كما شهدنا في تجربة الحياة الأفضل- دون فرض وصاية عليهم أو تشجيع سياسات معادية لهم كالإخلاء والتهجير القسري وتجاهل ثقافتهم وأسلوب حياتهم. واضعين في الاعتبار أن ما يوفرونه ليس فقط امكانية تحسين حالة مساكن الفقراء بل وجودة حياتهم ككل.
-١عادة ما ترتبط صناديق القروض الدوارة بمشروعات التمويل متناهي الصغر ، يمثل الصندوق الحساب المالي التي تدور خلاله جميع
-٢يقدر متوسط معدل التضخم منذ بداية المشروع إلى الآن بحوالي 8% ووصل لأقصى معدلاته 23.7% عام 2008 (راجع: معدل التضخم في مصر خلال السنوات من 1995 إلى 2015 وفقًا لبيانات البنك المركزي)
-٣في حوار لمجدي موسى، رئيس قطاع التمويل الأصغر في الصندوق الاجتماعي للتنمية، مع موقع بوابة التمويل الأصغر في 2011، أشار إلى أن قانون الجمعيات الأهلية لا يمنع الجمعيات من إدارة نشاط التمويل الأصغر إلا أنه لا يتضمن أي بنود تنظم عملها ويحد من قدرات هذه الجمعيات علي الحصول علي تمويل والتوسع في نشاطها. الجدير بالذكر أن الرئيس عبد الفتاح السيسي قد أصدر العام الماضي القانون المنتظر، قانون تنظيم التمويل الأصغر رقم ١٤١ لسنة ٢٠١٤، والذي يعين هيئة الرقابة المالية للرقابة على أنشطة مؤسسات التمويل الأصغر، ولكن لم تظهر بعد نتائج تطبيقه على أرض الواقع.
-٤التطوير في المكان (In-situ Upgrading) هو استراتيجية للتطوير العمراني طبقت لأعوام وأثبتت نجاحات في العديد من دول العالم النامية، بتطوير المناطق المهمشة غير الرسمية في الريف والحضر في نفس موقعها بالتدريج وبمشاركة السكان، كما ترتبط ارتباط وثيق بتقنين أوضاع السكان وتوفير الحماية والأمان لهم بدلًا من انتهاك حقوقهم وتهديدهم أمنيًا واجتماعيًا.
-٥التقسيم الإداري هو الذي يحدد الريف والحضر في مصر، ويتفق الكثير من الباحثين على قصور هذا التصنيف عن اعطاء صورة واضحة لحالة المجتمع العمراني وحجمه وخصائصه، وانه أصبح هناك تداخل كبير في ملامح المجتمعات العمرانية، فنجد اتساع انتشار مصطلحات “حضرنة الريف” و “ترييف المدن” تدليلًا على هذا التأثير المتبادل الناتج عن الهجرة الداخلية وعوامل أخرى كثيرة. كما لم تعد تنطبق معايير أوائل القرن الماضي على الوضع حاليًا، فلم تعد بالضرورة القرى مرتبطة بشكل أساسي بالأنشطة الاقتصادية التقليدية كالزراعة والصيد، ولا يوجد لدينا معيار خاص بالكثافة السكانية أو عدد سكان محدد لما يمكن اعتباره قرية ، لذا في ظل هذا الخلط لا يمكننا بناء افتراضات على طبيعة مجتمع عمراني ما لمجرد وصفه بالريفي، بل يلزمنا بعض التبيان.
-٦دليل الفقر متعدد الأبعاد هو أداة لقياس الفقر تأخذ في الاعتبار الجوانب المختلفة للفقر عوضًا عن ربط الفقر بدخل الأسرة فقط، بقياس ثلاث أبعاد هي الصحة والتعليم وظروف المعيشة، يتضمن البعد الأخير على عدة مؤشرات ترتبط بشكل مباشر بالسكن كالوصول لشبكات الكهرباء والمياه النقية ووجود مرحاض صحي داخل المنزل و مدى ملائمة طبيعة مادة أرضية المنزل.
-٧تدعم الهيئات الدولية وأهمها الأمم المتحدة والبنك الدولي التمويل الأصغر منذ سنوات وتتبناه في برامجها، وارتبط تطبيق نظم التمويل الأصغر بتحقيق أهداف الألفية التنموية لفقراء العالم، وكنتيجة لذلك أعلنت الأمم المتحدة عام 2005 العام الدولي للتمويل الأصغر بهدف تعميمه في دول العالم.
-٨في السنوات الأخيرة أصبح أثر التمويل الأصغر محل جدل واسع بين المهتمين، فبينما تشيد به والمؤسسات التنموية والحكومات وخبراء الاقتصاد كحل لأزمات الفقر والظلم الاجتماعي وكأداة لتنمية المجتمعات المحلية وتمكينها، يرى ناقدوه أن القروض الصغيرة لا ترفع من وضع المقترضين الاقتصادي بل على العكس فانها قد قادتهم لمأزق الديون، وبالتالي فانها قد حاصرتهم داخل دائرة الفقر لوقت أطول بدلًا من انتشالهم منها، ما يشكك في قدرتها على تحسين ظروف معيشتهم. ، ولكن مع انتشارها وتنوع المؤسسات التي أصبحت تقدم هذه الخدمات وعدم وجود قواعد واضحة لعمل هذه النظم المالية التي “أسيء استغلالها” حسب تعبير الرائد الأشهر التمةيل الأصغر البنغالي محمد يونس، وأصبحت مجالًا للتربح وجني أموال من الفقراء عوضًا عن إعطائهم الأموال، فأصبح الأمر ملتبسًا حول تقييم الأداة ككل.
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
Comments