“أغرتني معرفتي بحجم التوزيع العالمي لزجاجة الكوكاكولا من ناحية، وبأن الشعب المصري من الشعوب المدمنة على استخدام مياه الحنفية في الشرب (على عكس الشعوب المتحضرة عموما) من ناحية أخرى.. (أغرتني) على الربط بين عودة هذه الزجاجة إلى مصر وقلة مياه الحنفية، واختفائها تقريبا بالنهار، فضلا عن دكانة لونها وميله إلى السواد.
إلا أني لم ألبث أن اكتشفت أن الظاهرة المذكورة سابقة على عودة الكوكاكولا بسنوات، وعبر البحث وجدت أن الحنفية ظلت منذ الستينات المصدر الوحيد لمياه الشرب إلى أن طبقت سياسة التنويع، وظهرت المياه المعدنية المستوردة، واكتشفت أن التغيير الذي لحق بمياه الحنفية قد بدأ منذ تلك اللحظة.“
صنع الله إبراهيم، رواية اللجنة، 1981
في عام 2007 اندلعت “ثورة العطشانين“، أحد أهم الاحتجاجات الشعبية في عهد مبارك والتي قليلاً ما شهدت مصر مثلها منذ احتجاجات 1977. فقد قام أهالي قرية برج البرلس بمحافظة كفر الشيخ بقطع الطريق الدولي الساحلي، بعد أن عانى أهالي القرية من العطش الشديد والحرمان من مياه الشرب لمدة طويلة نتيجة انقطاع المياه عن القرية واضطرار سكان القرية لشرب مياه ملوثة في وسط تجاهل تام من المسئولين. مهدت خطوة أهالي قرية برج البرلس للعديد من الاحتجاجات بعدها. وتمحور معظم هذه الاحتجاجات حول الاحتياجات اليومية المباشرة لملايين المصريين حتى تحولت هذه الاحتجاجات إلى ثورة أنهت حكم مبارك في 25 يناير 2011، والتي كان من أحد أهم مطالبها تحقيق العدالة الاجتماعية.
تحتل مشكلة مياه الشرب موقعاً هاماً في قضية العدالة الاجتماعية في مصر. فقد حققت الحكومة المصرية إنجازات لا يمكن إنكارها في هذا المجال خاصة في الفترة ما بين 1990 و 2010 حيث ازدادت نسبة مد شبكات مياه الشرب في تلك الفترة من 89% إلى 100% في المناطق الحضرية، ومن 39% إلى 93% في المناطق الريفية. ولكن من الواضح أن هذا الإنجاز ظل محصوراً على مستوى الكم فقط من حيث أطوال الشبكات المنفذة أو عدد الوحدات السكنية التي تم ربطها بشبكات المياه، ولم يمتد لحل مشكلة مياه الشرب القائمة بصورة فعلية. فقضية مياه الشرب ومشاكلها ما زالت تتصدر عناوين الصحف ومواقع الأخبار من آن إلى آخر، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: مقتل سيدة بقرية برج البرلس تحت عجلات أحد جرارات المياه أثناء تسابقها مع أخريات للفوز بجركن مياه نظيفة، أو إصابة 4 آلاف مواطن بحالة تسمم بسبب شرب المياه الملوثة بقرية “صنصفط” بالمنوفية، أو إعلان قرية “السرو” بمحافظة دمياط انفصالها عن المحافظة خوفاً من مصير “صنصفط”. ولم تنتشر هذه الظاهرة في الريف فقط، بل تمتد أيضاً للقاهرة الكبرى وضواحيها. فقد حاصر أهالي منطقة “صفط اللبن” بالجيزة ديوان عام المحافظة في 2012 احتجاجاً على انقطاع المياه عن منطقتهم لمدة 3 شهور خلال الصيف وشهر رمضان. وفي خطوة رمزية منهم تعبر عن مطالبتهم بحقهم في المياه ومساواتهم بباقي مناطق المدينة الأكثر حظاً، قام الأهالي بالاعتصام داخل مبنى المحافظة واستخدام الحمام الخاص بموظفي المحافظة و”الاستحمام” فيه بالتناوب.
فما هي طبيعة المشكلة إذن؟ ولما هذا التضارب بين أرقام الإنجازات الحكومية وهذا الواقع الأليم؟
تعتمد محطات تنقية مياه الشرب في مصر، والتي تهيمن عليها الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي، على ثلاثة مصادر رئيسية. المصدر الأول والرئيسي هو المياه السطحية مثل مياه النيل والترع (حوالي 86%)، والمصدر الثاني هو الآبار الجوفية (حوالي 14%). أما المصدر الثالث فهو تحلية مياه البحر والذي يمثل نسبة لا تكاد تذكر. بعد تنقية المياه من هذه المصادر، تقوم الشركة القابضة بضخها من خلال شبكات للمستهلك النهائي لتصل إليه مياه نقية وصالحة للشرب.
تعاني تلك المنظومة في مصر من مشاكل عديدة. أولاً، تعاني مياه النيل والترع من التلوث الشديد الذي تصبح معه محطات التنقية غير قادرة على إزالة هذا الكم الرهيب من الملوثات والمواد السامة ويتبقى جزء منها في مياه الشرب. فالطرق التقليدية لتنقية المياه المستخدمة الآن لا تقضى على الملوثات الصناعية التي تقدر بحوالي 4.5 مليون طن سنويا، منها 50 ألف طن من المواد الضارة. كما أن بعض محطات الصرف الصحي تقوم بصب مخلفاتها في الترع والمصارف، ذلك بخلاف ما يلقيه الأهالي فيها من قمامة وحيوانات نافقة.
ثانياً، ارتفاع نسبة ملوحة مياه الآبار الجوفية وتلوثها نتيجة تسرب مياه الصرف الصحي والصناعي إليها. فوفقاً للجهاز المركزي للتعبة والإحصاء لا يتصل حوالي نصف عدد الأسر المصرية بشبكة الصرف الصحي وذلك حتى عام 2011، وترتفع هذه النسبة كثيراً في المناطق الريفية. ولا يجد كل هؤلاء سوى “الترنشات” (وهي آبار يتم حفرها تحت المنازل) للتخلص من مخلفات الصرف الصحي، والتي يتسرب أغلبها من خلال التربة للمياه الجوفية. وتعتمد المحطات الحكومية بتنقية هذه المياه الملوثة، أو يقوم المواطنين بشرب هذه المياه المختلطة بالصرف الصحي وبدون معالجة في مناطق كثيرة جداً من مصر بعد ضخها من الآبار باستخدام طلمبات يدوية تسمى بـ”الطلمبات الحبشية”.
ثالثاً، حتى المناطق الأكثر حظاً والتي تمتد إليها شبكات المياه النقية، فتعاني من عدم انتظام الخدمة وضعف ضغط المياه وانقطاعها لفترات طويلة. أما شبكة المياه نفسها، فمتهالكة تماماً وتصل نسبة فاقد مياه الشرب فيها إلى 50%. ولكن الأخطر من ذلك هو أن اهتراء شبكات المياه يؤدي لاختلاط مياه الصرف الصحي الموجودة بالتربة مع مياه الشرب النقية وتذهب هذه المياه الملوثة مباشرة إلى المنازل، خاصة مع استخدام طلمبات المياه لضخها إلى الأدوار المرتفعة. وأخيراً، تتوزع مسئولية الرقابة على جودة المياه في مصر بين جهاز تنظيم مياه الشرب والصرف الصحي وحماية المستهلك من جهة، ووزارة الصحة من جهة أخرى.وتعاني كلتا الجهتين من قلة الموارد وتضارب الاختصاصات فيما بينهما.
وكنتيجة لهذه الأسباب، يعاني حوالي 56% من مواطني الريف المصري [ملف نصي] من الحرمان من حقهم في الوصول بصورة منتظمة إلى مياه نقية صالحة للشرب. ولا يتوقف الأمر عند قضية الحرمان من الحق في المياه فقط، ولكن الأخطر هو تبعات هذه القضية على صحة المواطن المصري وما يترتب عليه من أمراض خطيرة مثل الفشل الكلوي والسرطان والمعدلات المرتفعة لوفيات الأطفال. دفعت هذه المخاطر العديد من المواطنين للبحث عن حلول في ظل عجز الدولة عن حل هذه القضية الشائكة. وتتناول هذه المقالة مبادرة قام بها بعض المواطنون في إحدى القرى المصرية لحل تلك المشكلة. وفي حقيقة الأمر، فإن هذه المبادرة على وجه الخصوص مثيرة للجدل لما تطرحه من تساؤلات عن مدى قانونيتها وتعارضها مع الملكية العامة للمياه وحق المواطنين في الوصول إليها وسياسات الدولة في هذا المجال. ولكنها تظل هذه المبادرة في نهاية الأمر جديرة بالاهتمام والتوثيق والمناقشة.
الوضع قبل المبادرة
لم يكن سكان القرية1 التي تمت بها هذه المبادرة، والذي لا يقل عددهم عن 100 ألف نسمة بمنأى عن مشاكل مياه الشرب، مثلهم في ذلك كآلاف القرى المصرية التي تعاني من تلك المشكلة. فبرغم تنوع المستويات الاقتصادية والاجتماعية بالقرية، إلا أن سكانها اتفقوا جميعاً على البحث عن كوب ماء نظيف بعد معاناتهم الطويلة مع المياه التي تصلهم عبر مواسير الحكومة. فالمياه التي تخرج من محطات التنقية الحكومية قد تكون نقية بالفعل. ولكن مع ضعف ضغط المياه وتدهور الشبكات واختلاط مياه الشرب بالصرف الصحي تصبح هذه المياه خطراً حقيقياً على صحة أهل القرية، الذين فضل العديد منهم الخسارة المادية على أن يخسر صحته وصحة أولاده.
العديد من أهل القرية غير القادرين رضي بالأمر الواقع ويشرب من مياه الحكومة العمومية التي تنقطع عن منازلهم معظم ساعات اليوم. ولا تصل هذه المياه إلا لبضع ساعات قليلة قبل الفجر وقد تكون مختلطة بمياه المجاري. لذا يلجأ البعض من هؤلاء السكان لعمل طلمبات حبشية أو لشراء المياه من عربات خزانات المياه التي يملؤها أصحابها من مصادر أقل تلوثاً ويبيعونها للسكان في شوارع القرية. أما البعض الآخر وخاصة من القادرين، فقد قام بشراء فلاتر منزلية يصل سعرها إلى ألف جنيه للحفاظ على صحته. ولكن يعيب هذه الفلاتر ارتفاع تكلفة تشغيلها وقطع غيارها التي تصل إلى مائة جنيه شهرياً، كما أنها سريعة التلف نتيجة قلة جودة المياه العمومية وامتلاؤها بالشوائب، فضلاً عن أنها لا توفر حلاً لمشكلة انقطاع المياه المزمنة. أما الفريق الأخير وهو أيضاً من القادرين مادياً، فيقوم بشراء المياه المعدنية لأغراض الشرب والطهي أو يقوم بشراء المياه من محطات التنقية الخاصة التي بدأت في الانتشار بصورة واسعة النطاق في ريف مصر.
الفكرة والتنفيذ
في ظل هذا العجز أو عدم الاكتراث الحكومي، وإلى حين قيام الحكومة بحل هذه المشكلة كان على الأهالي العثور على حل بديل. في عام 2012 قام أحد أبناء القرية بعمل مشروع محطة خاصة هادفة للربح لتنقية المياه وبيعها في جراكن لسكان القرية. وفي حقيقة الأمر لم يكن مؤسس هذا المشروع أول من بدأ هذا النشاط في قريته، فقد سبقه في العمل عشر محطات أخرى خاصة بدأت أولها في الإنتاج في عام 2007 وذلك بعد انتشار هذه الفكرة في بعض المحافظات الأخرى. وتتنافس هذه المحطات الإحدى عشرة جميعهاً في تقديم هذه الخدمة لسكان القرية.
وتعتمد فكرة هذا المشروع ببساطة على قيام صاحب المشروع باستئجار محل صغير به مصدر مياه وكهرباء، ويقوم بشراء مجموعة من الأجهزة والفلاتر لتنقية المياه من شركة متخصصة، ويقوم بتركيبها في هذا المحل. ويتشابه نشاط المحطة الخاصة بصورة كبيرة مع خطوات تنقية المياه التي تقوم بها المحطات العمومية. ولكن الاختلاف الأساسي أن محطات المياه العمومية تتخذ مصادرها من مياه النيل أو الترع أو الآبار مباشرة ثم تقوم بتنقيتها. بينما يعتمد صاحب مشروع المحطة الخاصة على مياه الصنبور العمومية التي تم تنقيتها مسبقاً كمصدر للمياه. ولكنه يقوم بتنقيتها مرة أخرى بعد أن تكون قد اختلطت بمياه الصرف الصحي، أو علقت بها الشوائب المتراكمة في شبكة مواسير المياه.
يقوم صاحب المشروع بتخزين هذه المياه أولاً في خزان مبدئي لترسيب الشوائب العالقة بها. ثم يمرر المياه بمجموعة من الفلاتر لنزع كمية أخرى من الشوائب والمواد الصلبة وليزيل عنها أي طعم أو رائحة. ثم يجري عليها عملية تسمى بـ“التناضح العكسي” حيث ينتقل الماء من المحلول الأعلى تركيزا نحو الأدنى عبر غشاء شبه نافذ باستخدام الضغط، وهي طريقة متَّبعة لتنقية المياه يفصل بعدها الماء عن الأملاح والمعادن الأخرى. ثم يتم تعريض الماء بعد ذلك للأشعة فوق البنفسجية لقتل البكتيريا. وتنتهي عملية التنقية بمعادلة الأملاح، أي إضافة بعض الأملاح للمياه التي تكون قد فقدت معظم أملاحها في عملية التنقية. وعملية المعادلة هذه هامة لصحة الإنسان حيث تسبب المياه منزوعة الأملاح تماماً أضراراً على صحة الإنسان.
بعد عملية التنقية هذه يتم تخزين المياه النقية في خزانات خاصة، ثم يتم تعبئتها في جراكن سعة 12 لتر ويتم بيعها للجمهور سواء بالمحطة مباشرة، أومن خلال توصيلها للمنازل. ويستخدم صاحب المحطة في ذلك عاملي توزيع وتريسكلين يتسع كل واحد منهما إلى 40 جركن لتوصيل المياه للمنازل. بعد عودة الجراكن للمحطة، يقوم صاحب المحطة بتنظيفها وتطهيرها وتعبئتها بالمياه النقية مرة أخرى. تنتج هذه المحطة حوالي 8.000 لتر يومياً، أي ما يوازي حوالي 640 جركن. ويقوم صاحب المحطة ببيع هذه الجراكن في المحطة نفسها، أو من خلال خدمة توصيلها للمنازل. فهذه المحطات هي شركات خاصة تهدف للربح في المقام الأول وتقدم هذه الخدمة نظير مبلغ مالي وتهدف جميعها لتقديم مياه نظيفة للشرب والطهي بسعر معقول عوضاً عن سوء الخدمة الرسمية، وهي المشكلة التي يعاني منها كل السكان.
ويتبع صاحب المحطة بعض إجراءات الأمان في محاولة للوصول إلى المقاييس والمواصفات الصحية المتعارف عليها. فيقوم صاحب المشروع باستخدام بعض الأجهزة لقياس نسبة الأملاح في المياه قبل وبعد الفلترة. كما يقوم من فترة إلى أخرى بتحليل المياه في أحد المعامل المتخصصة للتأكد من جودة المياه المنتجة. ويتلقى صاحب المشروع زيارة شهرية منتظمة من الشركة الموردة للفلاتر والأجهزة حيث تقوم بالتأكد من جودة عملية الإنتاج وتقوم بتغيير أجزاء الفلاتر وإجراء عمليات التطهير والصيانة الدورية اللازمة.
لم يمتلك صاحب المشروع أي خبرة سابقة في هذا المجال، فهو حاصل على دبلوم تجارة. ولكنه تغلب على عدم خبرته هذه بزيارة محطات مماثلة أخرى، ثم الاستعانة بخدمات إحدى الشركات العاملة في مجال تنقية المياه. فقد تعاقد مع الشركة وطلب منها تقدير المعدات اللازمة، وكذلك طريقة التشغيل والصيانة وهو ما قدمته الشركة بالفعل وأعطته ضمان لمدة سنة على أجهزة المحطة. وهو الآن يتبع تعليمات الشركة التي تقوم بدورها بأعمال المتابعة الدورية وتوفير قطع غيار الفلاتر، وهو ما يمثل في حد ذاته مصدر دخل إضافي للشركة.
لم يحدث أي تنسيق من جانب صاحب المشروع مع الجانب الحكومي، فهذا النشاط ككل لا يستند إلى قانون يعمل بموجبه. ولكن الاحتياج المجتمعي لتلك الخدمة والعائد المادي الناتج منها لتلبية هذا الاحتياج كانا من أسباب القيام بالمشروع ومن عوامل نجاحه. المشروع لا يعمل بموجب أي تراخيص تتيح له تنقية المياه وتوزيعها بهذا الشكل. إلا أن نظرة أهالي القرية لهذا المشروع كخدمة تعود عليهم بالنفع، وكون صاحب المشروع من عائلة كبيرة ومعروفة بالقرية يجعلان صاحب المشروع يعمل في أمان وبدون قلق من تتبع الأجهزة الحكومية له. ومن جانبه، يقوم صاحب المشروع ببيع جراكن المياه بسعر التكلفة – تيسيراً على غير القادرين على حد قوله – إذا قام الأهالي بشرائها من المحطة نفسها. وهو ما أرجعه صاحب المشروع للالتزام الأخلاقي والإنساني تجاه أهالي القرية. ولا توجد أي درجة من المشاركة المجتمعية في هذا المشروع، فالمجتمع هنا ليس سوى متلقي للخدمة. فالمشروع شركة خاصة تقوم على مبادرة فردية في المقام الأول. ويقوم فيها صاحب المشروع باتخاذ كل القرارات، وتقييم الأداء وجودة العمل، وتحديد أسعار المنتج النهائي بمفرده ووفقاً لمتطلبات السوق.
الموارد ومصادرها
من أجل البدء في المشروع كان على صاحبه أولاً توفير رأس المال ثم الحصول على مكان مناسب للتشغيل ثم شراء المعدات وتركيبها ثم الحصول على تريسكلي النقل والتحصيل. ولتدبير رأس المال اللازم، استخدم صاحب المشروع مدخراته الشخصية، كما حصل على بعض القروض الحسنة من بعض معارفه وأقربائه. قام صاحب المشروع بعد ذلك باستئجار محل بالدور الأرضي بأحد مباني القرية تبلغ مساحته حوالي 30 متر مربع. أما تريسكلي التوصيل والتحصيل فقد اقترض مبلغ إضافي من المال لدفع المقدم وقام بدفع باقي ثمنها على أقساط يسددها من الأرباح.
أما أجهزة التنقية والدعم الفني فقد حصل عليهما صاحب المشروع من إحدى الشركات العاملة في المجال. وتقوم هذه الشركة والعديد غيرها بالترويج لهذه الفكرة بين الراغبين في إقامة مشروعات مماثلة هادفة للربح، وخاصة في الريف وأطراف المدن. ويوظف المشروع أربعة عمال بواقع عاملين لتشغيل الأجهزة، وعاملين للتوصيل وجميعهم يعملون تحت الإشراف المباشر لصاحب المحطة. ولا يتطلب التوصيل أي مهارة خاصة بينما يتطلب التشغيل قدر من التدريب والمعرفة بأسلوب عمل الأجهزة والصيانة التي تتطلبها. قام صاحب المشروع بنقل هذه الخبرة للعاملين لديه، بعد أن تلقى تدريباً مماثلاً من الشركة التي أمدته بالأجهزة.
أما عن اقتصاديات المشروع وتكلفة تشغيله، فقد تطلب رأس مال مبدئي بلغ حوالي 80 ألف جنيه لشراء معدات التنقية والفلاتر وتجهيز المحل، هذا بالإضافة إلي 7 آلاف جنيه نظير مقدم التريسكلين. وتبلغ مصاريف التشغيل الشهرية حوالي 8 آلاف جنيه تتوزع بين إيجار المحل ومرتبات العمال وقطع غيار أجهزة التنقية واستهلاك الكهرباء، وهذا بناءً على مستوى التوزيع الحالي. الطاقة القصوى لإنتاج المحطة يبلغ حوالي 640 جركن يومياً. ويبيع صاحب المحطة الجركن سعة 12 لتر بمبلغ نصف جنيه في حالة البيع في المحطة نفسها، وبمبلغ جنيه واحد في حالة التوصيل للمنزل. ويقوم صاحب المحطة بتحصيل معظم مكسبه من خدمة التوصيل للمنازل، حيث تستهلك بعض الأسر ما يصل إلى 4 جراكن يومياً حسب تقدير صاحب المحطة.
ويحتاج المشروع بالطبع للكهرباء لتشغيل أجهزة المحطة، والتي يقوم صاحب المحطة بالمحاسبة علي استهلاكها من خلال عداد تجاري وهو ما يرفع من تكلفة التشغيل. أما المياه التي يقوم بتنقيتها فيحصل عليها مجاناً من خلال توصيلة غير رسمية بدون عداد. وبما أن المشروع غير مرخص من الأساس، فلا يقوم صاحب المشروع بدفع رسوم تراخيص أو مصروفات حكومية. لذا، لا يواجه المشروع في الوقت الراهن أي مصاعب مادية. غير أن ما يحققه صاحب المشروع من ربح مرتبط – على حد قوله بحصوله – على الماء مجاناً. كما يرى أن دفعه لسعر المياه وفقاً للتسعيرة الحكومية سيؤدي إما لاضطراره لرفع سعر المياه المباعة، أو تعرضه للخسارة وإغلاقه للمشروع نتيجة المنافسة القائمة مع المحطات الأخرى المنتشرة بالقرية. ولكن هذه النقطة بالتحديد سنعود إليها لاحقاً.
الفرص والمعوقات
نظراً لطبيعة المشروع التجارية، فإنه يواجه ثلاثة تحديات هي رأس المال، والخبرة الفنية والإدارية اللازمة لتشغيل المشروع، ثم التسويق. لم يواجه صاحب المشروع مشكلة كبيرة في توفير رأس المال الذي حصل عليه في صورة قروض حسنة من معارفه وأقربائه الذين مولوه لثقتهم فيه. أما الخبرة الفنية، فقد اكتسبها من الشركة التي أمدته بالأجهزة لأنها حريصة في المقام الأول على نجاح المشروع حتى تبيع من خلاله منتجاتها من قطع غيار وخدمات صيانة ومتابعة دورية.
أما بخصوص التسويق، فإن الاحتياج القائم لهذه الخدمة، وانتماء صاحب المشروع للقرية، وصلة قرابته بأفراد معروفين فيها كان له تأثير إيجابي ليس على تسويق منتجه فقط، بل وحمايته من ملاحقة الأجهزة الحكومية له. ويسعى صاحب المشروع حالياً للحصول على التراخيص اللازمة لعمل وحدة تعبئة للمياه النقية في عبوات، بما يشابه ما تروجه الشركات الكبيرة من عبوات مياه. ولكن يظل وضعه الراهن من عدم حصوله على تراخيص لممارسة هذا النشاط، أو حصوله على المياه بشكل غير رسمي، وزيادة المنافسة بين هذا النوع من المحطات الخاصة التي تنتشر سريعاً، وعدم وجود قانون بالدولة ينظم مثل هذا النشاط من أهم المعوقات التي قد تواجهه.
نتائج المبادرة
يعتبر صاحب المحطة أن الهدف الرئيسي من المشروع – وهو توفير مصدر مياه نقية بديل بسعر معقول – قد تحقق. إلا أنه لا زال يتمنى أن يحصل على الدعم والاعتراف حكومي بهذا النوع من النشاط، وهو ما سيمكنه من ممارسة عمله بصورة قانونية. وتستفيد نسبة كبيرة من سكان القرية الآن من خدمات هذه المحطة والمحطات الأخرى المنافسة، ماعدا غير القادرين من ليس في استطاعتهم تحمل كلفة شراء المياه المنقاة. لا توجد إحصاءات أو نتائج اختبارات رسمية تدل على جودة المياه سوى القياسات التي يجريها صاحب المشروع نفسه. وهذا في حد ذاته أمر جدير بالتوقف عنده، ويعكس انسحاب الدولة التام من هذه العملية، وغياب دورها الرقابي في هذا المجال.
الاستدامة وإمكانية التكرار
من الناحية الاقتصادية، وبعد خصم كافة جوانب التكلفة والمصروفات والأقساط المستحقة من العائد الذي تحققه المبيعات يمكن القول أن المشروع مربح ومستدام مادياً. ولكن هذا الربح يرتبط بصورة ما بحقيقة أن المشروع يحصل على المياه بالمجان، كذلك عامل المنافسة مع المحطات الأخرى التي يزداد عددها يوماً بعد يوم. تصب هذه العوامل بصورة ما في صالح المستهلك الذي يحصل على المياه النقية بسعر رخيص نسبياً. ويمكن للمشروع أن يحافظ على هامش الأرباح هذا طالما لم تقم الحكومة بدورها في تحسين خدمة مياه الشرب بالقرية.
أما من الناحية الاجتماعية، فصاحب المحطة – حسب قوله – يحاول مراعاة محدودي الدخل بالقرية من خلال بيع المياه النقية بسعر التكلفة أو بهامش ربح بسيط داخل المحطة. يقول صاحب المحطة أن ذلك يتناسب مع مستويات الدخل المختلفة ويلبى حاجة المواطنين في الحصول على مياه نظيفة، ويساهم في الوقاية من الأمراض المنتشرة بسبب تلوث المياه. أما الجانب الأهم هنا، فهو استفادة صاحب المشروع من شبكة العلاقات والروابط الاجتماعية القائمة بالقرية. فهي تؤمن له في المقام الأول الحماية من تتبع الأجهزة الحكومية لأن المجتمع يحتاج لهذه الخدمة والحكومة لا تقوم بتوفير البديل. كما تكفل له شبكة العلاقات والروابط هذه سهولة الوصول للموارد المالية من خلال الحصول على قروض حسنة من الأقارب والمعارف بالقرية.
ولا يمكن أن نقول المثل على جانب الاستدامة المؤسسية للمشروع. فداخلياً، هو مشروع يعتمد حتى الآن بصورة كاملة على شخص واحد ولا توجد له بنية مؤسسية تكفل استمراره إذا رغب صاحب المشروع في تغيير هذا النشاط أو حدث له أي طارئ. أما في إطار علاقته بالمؤسسات القائمة، فهو يفتقد أيضاً للاستدامة على حد السواء. فالمشروع لا يحظى بالاعتراف الرسمي للدولة، واستمراره بهذه الصورة غير مضمون سواء من الناحية القانونية وافتقاده للتراخيص اللازمة وحصوله على المياه بالمجان، أو من ناحية الرقابة الصحية على جودة المياه المنتجة. ولكن مع ذلك نجد أن العديدين يقومون بتكرار نفس التجربة في أماكن أخرى نظراً لاستمرار الاحتياج الشديد للمياه النقية.
رؤية تضامن
هذه مبادرة مثيرة للجدل. فكوب ماء نظيف هو أبسط الحقوق التي يجب أن تكفلها الدولة للمواطن. ومع ذلك نجد أن نسبة كبيرة من المصريين، خاصة في الريف والأماكن الأقل حظاً في المدن، محرومة من هذا الحق. وأمام تقاعس الدولة، أو عدم قدرتها في ظل الإمكانيات المتاحة على حل هذه القضية الحيوية والملحة، ما الخيارات التي يملكها المواطنون؟ يجد المواطنون أنفسهم هنا أمام معضلة: إما القبول بالأمر الواقع واستخدام الطلمبات الحبشية أو شرب مياه الحكومة – إن وصلتهم في المقام الأول، أو الإنفاق على فلترة المياه بمنازلهم أو شرائها من مصادرها الخاصة المختلفة.
في ظل هذا الواقع الأليم انتشرت آلاف محطات المياه الخاصة في الريف المصري وعلى أطراف المدن لمحاولة إيجاد حل لهذه المشكلة المزمنة. ففي أغسطس 2012 وصل تقدير عدد هذه المحطات إلى حوالي 2.000 محطة خاصة تعمل على مستوى محافظات مصر المختلفة. وليست جميع هذه المحطات هادفة للربح كحالتنا هنا، ولكن منها من أنشأته بعض الجمعيات الأهلية كنشاط خيري يخدم المواطنين. وينحصر دور الدولة في التعامل مع هذه الظاهرة في مطاردة أصحاب هذه المحطات ومحاولة إغلاقها، بل ومطالبة المواطنين (المستفيدين في المقام الأول من وجود هذه المحطات) بالإبلاغ عنها لغلقها. كل ذلك في غياب أي حلول بديلة تقدمها الدولة لهذه المشكلة على المدى القريب.
حتى يتسنى لنا فهم الأبعاد المختلفة لتلك القضية، يتوجب علينا النظر للمياه كحق مكفول لجميع المواطنين. فالعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الصادر في عام 1966 يتناول قضية الحق في الماء من منظورين مختلفين. الأول يرتبط بحق المواطنين في مستوى معيشي ملائم (المادة 11)، بينما يرتبط الثاني بحق المواطنين في التمتع بأعلى مستوى من الصحة (المادة 12). ولأهمية هذه القضية أصدرت لجنة الأمم المتحدة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في عام 2002 التعليق العام رقم 15 على المادة 12 من العهد الدولي، والخاص بـ”الحق في الماء”. ويعطي هذا التعليق تعريفاً واضحاً للحق في الماء بأنه “لكل فرد الحق في الحصول على كمية من الماء تكون كافية ومأمونة ومقبولة ويمكن الحصول عليها مادياً كما تكون ميسورة التكلفة لاستخدامها في الأغراض الشخصية والمنزلية.“ والنقطة الأهم في هذا التعريف أنه يعطي الحق في الماء صفات محددة لا تقف عند جانب الوصول للماء فقط، بل يمتد لجوانب أخرى تصلح كأداة لتحليل مبادرتنا هذه، وقضية مياه الشرب في مصر بوجه أعم. ومن هذه الجوانب:
كفاية المياه
يعني ذلك أن تكون المياه كافية للفرد كي يؤدي بها جميع أغراضه بشكل سليم ومريح. ومن المعروف أن حد الفقر المائي المتعارف عليه للفرد الواحد هو 1.000 متر مكعب من المياه العذبة سنويا، والبلدان التي يقل نصيب الفرد فيها عن ذلك تعد فقيرة مائياً. وتعد مصر من الدول التي تقع تحت خط الفقر المائي حيث يبلغ نصيب الفرد فيها حوالي 700 متر مكعب من المياه العذبة سنوياً. ومن المتوقع أن تنخفض هذه الحصة إلى 600 متر مكعب سنوياً بحلول عام 2025.
ولا يقف الأمر عند هذه الحد، ولكن تعاني مصر من تفاوت حاد وغياب مؤرق للعدالة في توزيع نصيب الفرد من مياه الشرب النقية التي تنتجها الشركة القابضة للمياه بين محافظات مصر المختلفة. فعلى سبيل المثال، بلغ متوسط نصيب الفرد في مصر من مياه الشرب المنتجة في 2009/2010 حوالي 259 لتر في اليوم. ولكننا نجد في نفس الفترة أن نصيب الفرد في اليوم يبلغ 752 لتر في محافظة القاهرة، و580 لتر في محافظة الإسكندرية. بينما يبلغ نصيب الفرد في اليوم 105 لتر في محافظة المنيا و108 لتر في محافظة أسوان. يعني ذلك ببساطة أن المواطن المصري الذي يسكن بالقاهرة يحصل على نصيب من الماء النقي يزيد عن 7 أضعاف نصيب المواطن الذي يسكن بمحافظة المنيا على بعد 3 ساعات بالقطار من القاهرة، وكأنها دولة أخرى. ولا يقتصر هذا التفاوت المروع بين المحافظات وبعضها البعض، ولكن يحدث داخل المدينة الواحدة بين أحيائها المختلفة.
وقد يبدو من المدهش أن نصيب الفرد في مصر من المياه النقية يزيد على مثيله في دولة مثل ألمانيا. ولكن يعيب منظومة توزيع المياه النقية في مصر عدم عدالة التوزيع، وارتفاع نسبة الفاقد من هذه المياه والذي يصل إلى 50% من كمية المياه المنتجة نتيجة سوء الاستخدام وتدهور حالة شبكات المياه.
إمكانية الوصول للمياه
يعني ذلك سهولة الوصول إلى المياه وتجنب المتاعب التي يلقاها البعض للحصول على الماء. وهو ما يتطلب توفير صنبور مياه نقية بكل منزل على أقل تقدير، وذلك لتجنب تخزين المياه وتلوثها مع الوقت. فوفقاً لدراسة للمركز القومي للبحوث في 2008، فإن 40% من سكان القاهرة لا يحصلون على المياه لأكثر من ثلاث ساعات في اليوم. ووفقا لمسح أجري قبل عام 2006 في محافظة الفيوم، كانت هناك شكاوى من 46% من الأسر من انخفاض ضغط المياه، و30% من انقطاع المياه المتكرر، في حين اشتكى 22% من عدم إتاحة المياه خلال ساعات النهار. وليس هناك من دليل أكثر على هذه المشكلة سوى تفشي استخدام مواتير المياه أوالطلمبات الحبشية تقريباً في كل منازل مدن وقرى مصر للحصول على المياه.
صلاحية المياه
يعني ذلك أن تكون المياه نقية وصالحة للاستخدام لأغراض الشرب والاستخدامات المنزلية المختلفة. أي أن تكون خالية من الملوثات المختلفة التي تهدد صحة الإنسان، وأن تكون مقبولة من ناحية اللون والرائحة. وقد تناولنا في بداية هذه المقالة أسباب تلوث ماء الشرب واختلاطها بمياه الصرف الصحي والملوثات المختلفة، ولكن نود الإشارة هنا إلى حجم هذه المشكلة. فعناوين الصحف تطل علينا بصورة شبه منتظمة بأخبار تسمم مئات، بل آلاف المواطنين نتيجة شرب المياه الملوثة في قرى مصر المختلفة. وتطالعنا أحد الصحف في عام 2011 أن 80% من سكان محافظة أسيوط (والبالغ عددهم 4 ملايين مواطن) يشربون من مياه آبار ملوثة. ولكن الأخطر من ذلك هو ما تعترف به التقارير الحكومية نفسها من قلة جودة مياه الشرب التي تنتجها الشركة القابضة. فيشير أحد التقارير الحكومية الصادرة في سنة 2009/2010 أنه بتحليل عينات مياه الشرب التي تنتجها الشركة القابضة زاد عدد العينات غير المطابقة للمواصفات عن 50% من إجمالي عدد العينات التي تم اختبارها في 8 محافظات معظمها في صعيد مصر من أصل 16 محافظة شملتها الدراسة.
إمكانية تحمل تكلفة المياه
المياه ليست سلعة. المياه حق أصيل لكل إنسان يجب أن توفره الدولة لجميع المواطنين وبدون أي تفرقة. فالمياه يجب أن تكون في متناول الجميع وبغض النظر عن مستواهم الاقتصادي. في مصر على سبيل المثال، تبيع الشركة القابضة المتر المكعب من المياه النقية للمستهلك المنزلي بسعر يتراوح بين 23 إلى 50 قرش وفقاً لكمية الاستهلاك، في حين تبلغ تكلفة إنتاج المتر المكعب إلى 125 قرش. ولكن إذا نظرنا إلى حالة محطة التنقية الخاصة التي يتناولها هذا المقال، نجد أن سعر بيع المتر المكعب من المحطة مباشرة يصل إلى 40 جنيه بخلاف ما يماثل هذا المبلغ نظير التوصيل للمنزل. أي أن المحطة الخاصة تبيع المياه النقية بما يعادل 80 ضعف سعر الشركة القابضة في أقل تقدير. وهو ما يدحض رواية صاحب المحطة أن دفعه لتعريفة استهلاكه من المياه يمكن أن يرفع سعر منتجه النهائي. أما إذا نظرنا إلي سعر زجاجة المياه المعبأة سعة 1.5 لتر والتي تبيعها الشركات الخاصة بحوالي 3 جنيهات، نجد أن هذه الشركات تبيع المياه النقية للمواطنين بما لا يقل عن 4 آلاف ضعف سعر الشركة القابضة.
لا شك أن دعم الدولة لتعريفة المياه مسألة ضرورية وفى غاية الأهمية، لكنها تطرح إشكالية أخرى وهى مسألة الاستدامة البيئية والاقتصادية. فرغم حرمان الملايين من المصريين من وجود مصدر آمن للمياه النقية فى منازلهم، إلا أن هناك على الصعيد الآخر بعض الممارسات الخاطئة التى تؤدى الى الإسراف فى استهلاك المياه النقية مثل غسيل السيارات ورى الحدائق الخاصة فى الأحياء الراقية. بالنظر الى سياسات الدعم فى الدول النامية نجد أن بعض الدول تنتهج سياسة التعريفة التصاعدية فى دعم المياه، حتى أن دولة مثل جنوب أفريقيا على سبيل المثال توفر 25 لتر مجانية يومياً لكل مشترك ثم تتدرج التعريفة فى الارتفاع مع زيادة الاستهلاك. تضمن هذه السياسات حصول جميع المواطنين على الحد الأدنى من احتياجاتهم اليومية وفى ذات الوقت الحد من الإسراف فى استهلاك المياه النقية.
قد يعرف البعض بقضية قرية صنصفط بالمنوفية التي أصيب فيها 4 آلاف مواطن بالتسمم في عام 2012 جراء شرب المياه الملوثة بالقرية. وقد قامت الأجهزة الحكومية نتيجة هذا الحادث بإغلاق محطة تنقية المياه الخاصة بالقرية (والمشابهة تماماً للمحطة الخاصة التي نتناولها في هذا المقال) واتهمتها بالتسبب في هذا الحادث. ولكن ما لا يعلمه الكثيرون أن السبب الحقيقي للحادث أن صاحب المحطة الخاصة قام بإغلاق المحطة لعدة أيام لظروف سفره خلال عيد الفطر [ملف بي دي إف]. مما اضطر سكان القرية لشرب مياه الشبكة العمومية التي تنتجها الحكومة، وهو ما أصاب آلاف منهم بالتسمم.
من المسئول إذن عن هذه المشكلات الهائلة المتعلقة بقضية حيوية مثل مياه الشرب في مصر؟ كيف لمواطن في دولة ما أن يحصل من الماء النقي على 7 أضعاف نصيب مثيله الذي يسكن في محافظة قريبة منه؟
من المسئول عن هذا التردي الذي أصاب هذا القطاع بأكمله حتى أصبح الحل الوحيد لملايين المواطنين كي يحافظوا على صحتهم هو اللجوء للمياه الجوفية أو مصادر المياه الخاصة؟
ومن يتحمل تكلفة هذا الفارق المروع بين تكلفة المياه العمومية وتكلفة شرب كوب مياه نقي من مصادر التنقية الخاصة؟ والسؤال الأهم، من يتكسب من هذا الفارق ومِن مصلحة مَن أن يستمر هذا الوضع؟
لن تحل مشكلة مياه الشرب في مصر بين يوم وليلة. لذا من نلوم هنا، المحطات والشركات الخاصة التي تحقق مكاسب لا حصر لها من بيع “سلعة عامة” ولكنها توفر خدمة لا غنى عنها للمواطنين؟ أم الدولة التي تتخلى عن دورها في هذا المجال وتركت المواطنين فريسة لهذه الشركات؟ قد يرى البعض أن خصخصة هذا المجال هي الحل الأمثل لتحسين هذه الخدمة. وقد بدأت الدولة بالفعل في خصخصة بعض قطاعات الصرف الصحي. وفي حين أن الدولة تغض الطرف عن شركات المشروبات العملاقة التي تبيع المياه المعبأة في السوق المصري، فإنها تطارد محطات التنقية الخاصة التي يقيمها المواطنين بالقرى وأطراف المدن وتهددها بالإغلاق، بدون أن تقدم الدولة حلاً لملايين المحتاجين لكوب مياه نقي ولا يملكون ثمن المياه المعبأة الباهظ.
ولكن الخصخصة ليست الحل. فملايين المواطنين حول العالم من البرازيل إلى ألمانيا إلى الهند ودول عديدة أخرى يناضلون من أجل استعادة الملكية العامة للمياه ويقاومون مخططات خصخصة هذا القطاع. بل أنهم يستعيدون مرافق المياه التي تم خصخصتها بالفعل من بين براثن الشركات الخاصة ويقدمون نماذج يحتذي بها في الإدارة العمومية الناجحة للمياه.
أين مصر من هذا ونحن نتجه لخصخصة العديد من القطاعات الحيوية التي تهم المواطنين؟ ترجع معظم مشكلات مصر في قطاع مياه الشرب إلى سؤ إدارته والتضارب بين تخصصات جهاته المختلفة والاحتياج إلى إعادة هيكلة هذا القطاع بأكمله وهو ما يحتاج بعض الوقت. لذا، قد يكون جزء من الحل على المدى القصير أن تقوم الدولة بإصدار قانون لتنظيم قطاع محطات تنقية المياه الخاصة للتأكد من جودة منتجه واعتدال أسعاره وأن توجه له يد الدعم لسد العجز القائم في هذه الخدمة. فالدولة ليست فقط منحازة لنهج الخصخصة، ولكنها حتى تمارس نهجاً للتمييز داخل الخصخصة وتنحاز بالكامل للشركات العملاقة على حساب الشركات الخاصة الصغيرة ومتناهية الصغر. وقد يكون جزء من الحل أيضاً أن تتعلم الدولة من محطات تنقية المياه الخاصة هذه في جانب اللامركزية وكيفية توفير خدمات ناجحة على مستوى القرى الصغيرة وأطراف المدن.
ولكن الاعتماد على القطاع بالخاص ليس بالتأكيد هو الحل على المدى المتوسط والطويل. فالحل هو أن تلتزم الدولة بدورها وواجباتها تجاه المواطنين في توفير كمية كافية ومأمونة ومقبولة من الماء تكون تكلفتها في متناول جميع المواطنين. فمصر من الدول الموقعة على العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية منذ عام 1967، وهي ملتزمة بكامل الحقوق الواردة به تجاه موطنيها ومنها “الحق في الماء” بكامل صفاته. لكن لن يتغير أي من ذلك إلا إذا آمن المواطنون بحقهم في الماء النقي وطالبوا به. لن يتغير أي من ذلك إلا عندما يتخلى المواطنون عن زجاجة المياه المعبأة أو مياه محطة التنقية الخاصة أو الطلمبة الحبشية كمصدر أساسي للمياه، ويبدءون في مطالبة الدولة بالتزاماتها تجاههم للحصول على كوب مياه نقي.
فالمياه ليست سلعة. المياه حق.
ملف خاص.. الأرض لو عطشانة.. نرويها منين؟
وزير الصحة: كل مصادر مياه «صنصفط» ملوثة
أزمة المياه في قرية برج البرلس بمصر [فيديو]
خليفة: الطلمبات الحبشية أحد أسباب تلوث المياه
شركة مياه مطروح تحذر من مياه الطلمبات الحبشية والسندة
أمراض الكلي تهدد ١٠ آلاف مواطن في البحيرة بسبب «الطلمبات الحبشية»
بالصور.. عودة الطلمبات الحبشية بقرية المدامود بالأقصر بسبب الانقطاع الدائم للمياه
مشروع محطة تنقية المياه وتعبئتها في جراكن
تقرير التنمية البشرية 2013 – نهضة الجنوب: تقدم بشري في عالم متنوع[ملف بي دي إف]
تناقض في رؤية الحكومة حول المياه
الصورة المختارة تصوير ناصر نوري. منشورة تحت رخصة المشاع الإبداعي.
The content of this website is licensed by TADAMUN: The Cairo Urban Solidarity Initiative under a Creative Commons Attribution-NonCommercial-ShareAlike 3.0 Unported License
شريف زهيري Says:
ما اسم القرية المذكورة التي تعتمد على محطة تنقية أنشأها واحد من السكان؟
January 10th, 2014 at 12:44 pmTadamun Team Says:
قمنا بحذف اسم القرية حماية لأصحاب المشروع ولأن المشروع موجود في قرى أخرى كثيرة
January 12th, 2014 at 3:30 pmradwa abd el fattah Says:
صباح الخير
رضوى باحثة في مركز حابى للحقوق البيئية..كنت حابه اعرف مين كتب الموضوع ده وطرق التواصل ؟
January 20th, 2016 at 11:08 am